علي عبد الأمير في رحيله عام 2007، طويت صفحة المخرج السينمائي بسام الوردي أشهر مخرجي الأفلام الوثائقية ومخرج أحد أكثر الأفلام جدلا في العراق والذي منع عرضه منذ أكثر من 25 عاما. وكان فيلم الوردي الروائي "ليلة سفر" 1990 قد أثار جدلا كبيرا عندما رفضت المؤسسة الثقافية إبان فترة النظام السابق عرضه كون الممثلة العراقية غزوة الخالدي التي أدت فيه دور البطولة قد التحقت بالمعارضة العراقية في الخارج. ولد الوردي في عام 1942 في منطقة الكاظمية شمال العاصمة بغداد، وبسبب ولعه في السينما ترك دراسة علوم الأحياء في جامعة بغداد لينضم إلى معهد الفنون الجميلة فرع السينما عام 1961. صحيح إن أفلامه الوثائقية بدت "ثقافية" محض فهي تتناول السير الحياتية والفنية لتشكيليين عراقيين بارزين منهم: النحات محمد غني حكمت، الرسام عطا صبري، والنحات خالد الرحال، إلا إنها توصف كقطع سينمائية صافية لما فيها من نقاء رؤيا وإخراج حاذق.

المخرج الراحل بسام الوردي وهذا ما تحقق في أهم أعماله السينمائية الوثائقية، فيلم "حكاية للمدى" الذي تناول فيه سيرة حياة الفنان والقاص العراقي يحيى جواد، ونال عنه العديد من الجوائز في المهرجانات السينمائية واعتبر الأهم في تاريخ السينما الوثائقية في العراق. "أغنية لشمس الصباح"، "حكاية للمدى" عنوانان يكشفان موقعا شعريا بارزا في التكوين الثقافي لبسام الوردي، وهو أمر يكاد يكون طبيعيا لجيل ستينيات القرن الماضي في الثقافة العراقية ومنه الوردي، فهو جيل الغضب والنبرة الحالمة في آن. وفي حوار مع الوردي جاء على هامش "مهرجان الفيلم القصير" الذي أقامته "جمعية الفنون البصرية" في بغداد مناسبة ونشر في صحيفة "الحياة" خريف العام 2005، كان الرجل ينظر إلى عمله في حقل السينما في العراق، على إنه "عمل بجهد سينمائي حرص فيه على ان تكون لغة السينما حاضرة في العمل: في تكوين المشاهد، وفي الطريقة التي اتخذت، والأسلوب الذي اعتمدت في الإخراج"، معتبرا فيلمه "حكاية للمدى" من أهم أفلامه التسجيلية إذ "تناولت فيه أعمال الفنان العراقي يحيى جواد بأسلوب وظفت فيه أعماله النحتية لمقولة أشمل هي مقولة همنغواي: إنك تستطيع أن تحطم الإنسان.. ولكن لن تهزمه". وعن تجربة اخراجه الفيلم الروائي "ليلة سفر"، يؤكد الوردي انه عمل فيه بجهد سينمائي حرص معه "على ان تكون لغة السينما حاضرة في العمل"، موضحاً إنه استخدم اللغة السينمائية كما استوعبها للتعبير عن فكرة جوهرية أكد عليه في فيلمه هذا"، وهي إشراك المتلقي - المشاهد في تكوين انطباع جمالي وفكري عن المضمون الذي يسعى الفيلم لإيصاله؟ أي أنني أردت لمشاهد فيلمي هذا ان يكون "فاعلاً" لا "منفعلاً" فقط. وأعتقد بأن هذا هو ما جعله يحظى باهتمام النقاد". ومع إن الوردي يؤكد على "روحية الشعر" في فيلمه: "ليس الشعر نفسه... اعتمدت الإيحاء والتورية، وظلال المعاني... ما وراء الكلمات، وكل ما يتصل بروح الشعر"، إلا إنه يرفض إعتبار "ليلة سفر" فيلماً نخبوياً: "حين قلت إنني أردت من مشاهد الفيلم أن يكون "فاعلاً" لا "منفعلاً" كنتُ أقصد تواصل هذا المشاهد مع الفكرة الاساسية فيه. و"ليلة سفر" لم يكن "فيلماً نخبوياً" على الاطلاق، كل الذي فعلته فيه هو أنني حاولت خلق نوع من الموازنة بين كون الفيلم - شئنا أم أبينا -"سلعة" يجب أن تجد سوقاً، وتعود بمردود ربحي... وبين كونه "فناً" له مستواه. ولكن مع ذلك فان هذا الفيلم لم يعرض على نطاق واسع في العراق.
القبض على "ليلة سفر" وحول السبب الحقيقي لمنع فيلمه "ليلة سفر" من العرض الجماهيري يعتقد المخرج بسام الوردي "كان هناك سببان أحدهما، ظاهري والآخر حقيقي. فالسبب الظاهري هو ان إحدى الممثلات في الفيلم كانت قد غادرت العراق بعد إتمام العمل، ملتحقة بالمعارضة العراقية. أما السبب الحقيقي فهو- بحسب تقديري- ان الفيلم باللغة السينمائية التي اعتمدتها فيه كان قد وضع عديد الأفلام العراقية، المكلفة إنتاجا إلى حدّ البذخ، على المحك، مقارنة بفيلم أُنتج بموازنة هزيلة"، مستدركا " بعد هذا الفيلم لم تنتج "دائرة السينما والمسرح" غير فيلم واحد هو "الملك غازي" الذي أخرجه الفنان محمد شكري جميل، وكان انتاجه بتوجيه من جهات عليا في الدولة. فالموقف لم يكن فردياً، وإنما كان توقفاً جماعياً بفعل الظروف القاسية التي عشناها".
إفقار الحياة السينمائية العراقية وعلى الرغم من البنية الشاعرية لعموم تجربة الوردي وثقافته، إلا إنه صاحب رؤية واقعية حيال متطلبات الإنتاج السينمائي، فهو ردا على سؤال "هل ترى ان العمل السينمائي في العراق يمكن أن يستأنف على أسس جديدة، وبوتائر أكبر وأشمل وأوسع"؟، يوضح "ما نحتاجه، أولاً، هو رأس المال اللازم لمثل هذا الانتاج. تشجيع رأس المال على التوجه إلى مثل هذا القطاع الاستثماري- والذي لا أعتقده متيسراً الآن في شكل مرض. فإذا ما علمنا ان الاستثمار في هذا المجال بطيء الربح، وجدنا إن "من يملكون" يبحثون اليوم عن الربح السريع، ذلك ان همهم مالي، وليس ثقافياً - أما أن تتبنى الدولة مثل هذا العمل، لأسباب فنية وتربوية وأخلاقية وسياسية وذلك بدعم رأس المال الخاص، فان ذلك إذا ما تم - قد يفتح أمام السينمائيين العراقيين باباً - وان كان سيظل موارباً، كما أعتقد". وكان الوردي يرسم صورة واقعية للشاشة الكبيرة في بلاده: "التوقف الذي حصل في العمل في مجالات السينما في السنوات الأخيرة، وهجرة الفنانين، والتآكل، وعدم توالد أجيال جديدة، كل ذلك أدى إلى إفقار الحياة السينمائية العراقية من عنصرها البشري. هناك أشخاص درسوا في الخارج واكتسبوا خبرات جديدة، وهم لا يزالون هناك. فإذا ما شاركت تلك الخبرات نظيرها الموجود في الداخل قد تحقق بعض التعويض". أمل الوردي ورجاؤه دفنا معه في صمت وخوف مديد، فقد رحل يوم كان الحرب الأهلية تمزق بلاده، وكادت تجعلها أقرب إلى قبر فسيح.
|