عازف "التشيللو" خزعل فاضل في محلة الفضل: أناقة النغم والهندام
تاريخ النشر
17/12/2016 06:00 AM
علي عبدالأمير عجام
كانت المحلة البغدادية الشعبية نبعا للمواهب الموسيقية والغنائية في ثلاثينات القرن الماضي واربعيناته، فهي بحكم التركيبة الاجتماعية أوجدت غنى ثقافيا متعددا لجهة اختلاط العرب بالكرد والتركمان، وتناغم المسلمين مع المسيحيين واليهود، فيما تولت مؤسسات الدولة الفنية الناشئة (المدارس بعامة ومعهد الفنون الجميلة بخاصة) حينها وبحسب جيل من البناة، تولت صقل تلك المواهب الطالعة من البيئة المركبة والغنية اجتماعيا وثقافيا.
ومن بين المحلات البغدادية الشعبية القديمة وأزقتها ومسالكها، كانت قد طلعت تجارب فنية ستؤثر عميقا في الروحية العراقية، فهناك رموز للطرب والغناء طبعت محلات بغداد الشعبية، أرواحهم ببداهة وطلاقة تعبير عمادها تعاليم الموروث الديني القائم على التسامح، وتهذيب العقل واللسان عبرتعاليم "الوطنية الجديدة" التي كانت المدارس تتولى غرسها في الافئدة والعقول الشابة.
الملحن وعازف الجلو الراحل خزعل فاضل
من أجواء "محلة الفضل"كان الفنان الموسيقي الراحل خزعل فاضل، عرف نعومة الظلال في صيف بغداد اللاهب، وألفة البيوت المتجاورة والايقاع المتداخل لأصوات النسوة من داخل تلك البيوت وصولا الى أصوات الرجال في مشاغلهم وورشهم الصغيرة، مرورا بالأطفال اللاهين في الأزقة. أجواء تلك البيئة الشعبية وان بدت " ضيقة" و"خانقة"، الا انها حرّكت الخلق الفني عند فاضل وأسماء فنية عراقية بارزة اخرى، تمكنت من صوغ وسائل تعبير فنية عملت بجدية لافتة على " تأصيل الحداثة"، فهم نقلوا أسس المعرفة العلمية والفنية الحديثة كما تلقوها في مراحل الدراسة الى شكل من الانسجام مع بيئتهم وان كانت شديدة المحلية، فالراحل خزعل فاضل كان عازفا على " التشيللو"، يحمل آلته الضخمة عصرا كأنها كنز فريد ويتجه بها ماشيا بلا كلل الى "دار الاذاعة" في الصالحية مشاركا في حفلة او عازفا مع فرقة، ودون ان ينسى الحفاظ العناية بمظهر قائم على أناقة مفرطة رغم انه خارج من محلة شعبية لم تعتد " المظهر الغربي" حينذاك، اناقة كانت تنسجم مع غلاف نسيجي نظيف ضم فيه آلته.
ومن تلك الأجواء ذاتها خرج "المونولوجست"، حسين علي، الذي برع في عالم "المونولوجات" بايقاعاتها الموسيقية الطريفة والحيوية وجذور نصوصها القائمة على التهكم ونقد الظواهر السياسية والاجتماعية، ومن هنا جاءت الطريقة التي ينشد عبرها اذ كانت اقرب الى التمثيل منها الى الغناء. كان ذلك " الفنان الشعبي" مؤلف أعماله الغنائية وملحنها، وكانت موضوعاتها تصف وقائع بيئته منتقدا "عادات سائدة سيئة " او سلوك غير محبب فضلا عن قضايا اجتماعية وسياسية كان يقاربها بالرموز.
ومثلما ألهمت إناقة العازف خزعل فاضل، وترف ثيابه أجيالا من ابناء محلته، كان " المونولوجست" حسين علي أنيقا هو الاخر، حد ان كثيرا مما نقل عن صورته "معجبا بنفسه وببدلاته التي كان يتأنق بلبسها واختياره لاشكالها وموديلاتها من الصور التي يعرفها اهل "دربونة الكروية" التي كان يسكنها"، وكانت حكايات اناقته المتغايرة بما يناسب الحانه وغنائه يتناقلها الناس على انها نوع من التسلية البريئة.
خزعل فاضل على آلة التشيللو مع المطربة أحلام وهبي
ان عازف "التشيللو" الانيق، خزعل فاضل، وكان عضوا في الفرقة الموسيقية للاذاعة حتى رحيله في ثمانينات القرن الماضي، صاغ الحانا جميلة كما في اغنية "تجونه لو نجيكم" للمطربة، مائدة نزهت، وللمطربة هيفاء حسين، وقّع لحن اغنية "رسالة للولف"، اما لـ"فرقة الانشاد" فقد لحّن اغنية "حنة حنة بيدها حنة بايديها"، وكذلك اغنية "عروسة والحبايب زافيها".
ويقع كثيرون في خطأ، حين يخلطون، بين "الأنيق" خزعل فاضل، وابن محلته البغدادية الشعبية ذاتها، خزعل مهدي، الذي هو شخصية اخرى.
ولايمكن الحديث عن تأثير البيئة البغدادية الشعبية الخصبة دون الحديث عن تأثيرها في اغناء روح " المقام العراقي" كأحد ابرز تجليات البيئة البغدادية نغميا وموسيقيا ، ومن اجواء " المحلة الشعبية" خرجت اسماء عدة من المؤدين الذين برعوا بقراءة "المقام العراقي" فضلا عن اعداد من مؤدي "المربع" ( شكل من اشكال الغناء القائم على التكرار اللحني واللفظي والمؤدى بطريقة اقرب الى التمثيل معتمدة على حركة المؤدي امام قوس من جوقة المنشدين)، واولئك كانوا عناصر الفرح والأنس في مناسبات الأعياد وحفـلات الزفاف، وتميزت اصوات مؤدي هذا اللون من الغناء الشعبي البغدادي بالمساحات العريضة ومرونة الانتقالات الصوتية بما يناسب اشكالا من المشاعر كانوا يجسدونها.
صحيح ان المحلة الشعبية كملمح مكاني كانت تتميز بـ"الضيق"، الا ان اجوائها الاجتماعية كان على النقيض من ذلك، فهي ظلت حاضنة لانفتاح "واسع"، حدّ انها لم تتقاطع مع خطوات التحديث الفكري والسياسي والاجتماعي التي عرفها العراق في النصف الاول من القرن الفائت، وثمة اعلام عراقيون مرموقون : مغنون، كتاب، شعراء، علماء ومفكرون مزجوا فيها بين الروحية " الفطرية" والعلوم والمعارف الحديثة، فثمة الشيخ محمد علي الفضلي الخطاط والعالم، ورائد "المقام العراقي"محمد القبانجي، والباحث الموسوعي في اصول الغناء والشاعر عبد الكريم العلاف، وصاحب المدرسة المعاصرة الشامخة في فنون الخط العربي هاشم محمدالخطاط، ورائد المسرح العراقي حقي الشبلي، والتشكيلي الرائد حافظ الدروبي وعشرات غيرهم، ممن تحصلوا على خبرات فنية، كبرت واتسعت في جنبات تلك الامكنة الضيقة من بيوت وازقة المحلة الشعبية البغدادية، حيث بيئة الانفتاح و"التكافل والعرفان".