علي عبد الأمير تميزت العقود الأولى من بناء الدولة العراقية المعاصرة، بمبدأ صحيح سارت عليه التجارب الإنسانية الناجحة، الا وهو إعتماد مبدأ تراكم التجارب العملية، وليس القطيعة معها، كما في النهج الذي اعتمدته حكومات العراق الجمهوري منذ العام 1958 حتى اليوم، إذ ان كل حكومة كانت تنسف البناء الطبيعي الذي انجزته ما قبلها، بدعوى انها الصواب وما قبلها هو الخطأ التام، وبالتالي ضاعت جهود تأسيسية في أغلب ميادين الحياة التي تشكل حياة البلاد وأهلها. واعتمادا على منهج إغناء المعرفة عبر تراكم التجارب، أسست الحكومة العراقية (وزارة المعارف آنذاك)، وتحديدا في أوائل شهر كانون الثاني من عام 1936، معهداً فنياً هو "معهد الموسيقى"، الذي يرجع الفضل فيه للراحل حنا بطرس، إذ قدّم كل ما يملك من موهبة موسيقية وجهد ونشاط في تهيئة مكان ومستلزمات هذا المعهد، الذي عمل على إظهار فكرة تأسيسه الى النور، كل من الأستاذين التربويين: الدكتور متي عقراوي، والدكتور فاضل الجمالي الذي كان مديرا للمعارف وصار لاحقا أبا للدبلوماسية العراقية المعاصرة، وحامل رسالة بلاده الى العالم عبر كونه أحد الموقّعين البارزين على اعلان تأسيس منظمة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية.
محمد فاضل الجمالي ممثلا للعراق في التوقيع على وثائق تأسيس الأمم المتحدة 1945
جهد الفصيل الرائد الذي مثّله حنا بطرس، متي عقراوي وفاضل الجمالي توّج في العام ذاته، بدعوة وجّهتها الحكومة العراقية، دعوة إلى الموسيقار الشريف محيي الدين حيدر، الذي إعتمد على ما أنجزه الثلاثي العراقي، من خطوات تأسيسية لصرح فني وتربوي هو الأول من نوعه في المنطقة. وتشكلت الهيئة التدريسية الأولى لـ"معهد الموسيقى" من الاساتذة: *الشريف محيي الدين حيدر مديراً للمعهد ومدرساً لآلة العود والفيولونسيل (الجلو). * حنا بطرس معاوناً للمدير ومدرّساً للآلات الهوائية. *ماركو ثيجي وجوليان هرتز (رومانيا) لآلة البيانو. *نوبار ملخصيان (أرمني من تركيا) لتدريس آلة القانون. *انيس جميل سعيد (فرنسي من أصل تركي) للكمان الغربي. *ساندو ألبو (من رومانيا) للكمان. *عبدو الطّبّاع لتدريس آلة الناي. *علي الدرويش لتدريس آلة الناي وغناء الموشحات الآندلسية، والذي كوّن فرقة عملت في الإذاعة العراقية وكان من أشهر تلاميذه ومساعديه، الأستاذ الراحل روحي الخماش، الذي ظل أمينا على هذا النهج الموسيقي والتربوي، أكان في احيائه "فرقة الإنشاد العراقية"، أم في تدريسه الموشحات، شكلا غنائيا وفنا موسيقيا خالصا في معهد الفنون الجميلة لسنوات طوال.
ضد القيم السائدة ولنلاحظ هنا الجدية في دراسة الفنون، وأين؟ في بلاد كانت قيمها الإجتماعية والثقافية السائدة، تنظر بريبة الى الثقافة الجديدة، فكيف بها وهي فنون جميلة، يدرسها طلبة يتطلعون بشوق الى العصر ومواكبة أفكاره، ثم ومتى؟ في لحظة كانت فيها القيم العشائرية والدينية تخنق أي تطلع للخروج من خيمة وصاياها وسلطتها الثقيلة، بل ان تلك القيم كانت تقف بقوة ضد التعليم وحتى الأساسي منه، فكيف بدراسة الموسيقى والرسم والنحت! ويكفي كمؤشر على حصاد تلك البدايات الجدية، ان نعرف الإسماء الرفيعة التي قدمها المعهد، لفنون العراق الجميلة، والموسيقى في مقدمتها وتحديدا لآلة العود: جميل بشير، سركيس آروش، سلمان شكر، منير بشير، غانم حداد، نازك الملائكة (الشاعرة الرائدة والناقدة لاحقا)، خليل إبراهيم، و فوزي ياسين. وفي الفروع الموسيقية الآخرى تخرّج، آرام بابوخيان، آرام تاجريان، سيلفا بوغوصيان، بياتريس أوهانيسيان، حمدي محمد صالح، منير نوري الله ويردي وغيرهم.
* الجزء الأول من دراسة عن فكرة التنوير في العراق المعاصر عبر الموسيقى والفنون
|