قاسم عبد الأمير
عجام*
مرة أخرى، ولن تكون
الأخيرة، يعيدك عمل درامي تلفزيوني الى قدرة هذا الفن على حمل أفكار كبيرة في ثنايا
أحداث يومية تغريك بالمتابعة، ويشوّقك أبطالها الى تأمل مصائرهم وسلوكهم، ومرة أخرى
يكون المؤلف نفسه يذكرك بأعمال له فعلت مثل ذلك، متحركة على مساحة عريضة في الزمان والمكان. انه (أسامه أنور
عكاشة) في عمله الجديد (أرابيسك – أيام حسن النعماني)، وانها لمسؤولية لا بد ان تفرض
علينا التذكر باتساع صدر الدراما للأفكار والقضايا العميقة مما لا يبقي عذرا لمعتذر
من أهل الدراما عندنا، وهم يلوكون ذات الموضوعات التي بدأت بها التمثيلية التلفزيونية
العراقية قبل أكثر من عقدين من الزمن، حتى لو غيروا ديكوراتهم وأزياء وإكسسوارات شخصياتهم
القيمة بين أشواك الحب والزعل وعجائز النميمة وعيون الحاسدين ومواعظ أهل الخير المكررة،
حتى بقيت أعمالنا المتميزة قليلة تشكو بقاءها موجات لم تتحول الى تيار. وبقيت تؤكد
اننا نستطيع معالجة قضايا شعبنا وتاريخ بلادنا وطموحات شبابنا في إطارين: متعة ودراما
جميلة، ولكننا نتقدم خطوه ونراوح خطوتين وربما نتراجع مثلهما!
والحاجة ملحة لحسم
موقف الدراما التلفزيونية بالتغيير الشامل، والا فلنتصارح بان المال قد نشر أجنحته
على مساحه واسعه من جمهور المشاهدين وأنه قد صار يلف الموضوعات والوجوه، ولنتصارح ان جيلنا الذي نحترمه قد صار بعيد المسافة
عما يظهر الآن بعد زمنه وفرق نوعيته، وسأبدأ من واحد من الجيد (القديم) لان به صلة
من نوع ما بما دارت عليه عجلات (ارابيسك) وطموحاتها الاجتماعية والفكرية، وان اختلف
العملان تفصيلا ومعالجة.
سأعود الى (يوميات
محلة) التي كتبها فناننا، الاستاذ قاسم محمد، في أواسط او أواخر السبعينات فكانت طموحا
فنيا لتقديم الاصالة والمعاصرة، ومسعى درامي يتغنى بالجيل الاصيل من أخلاقياتنا وتقاليدنا
حين يحتضنها عقل متفتح ينتصر للشباب والتغيير، وأزعم ان لو أتيح لمثل ما يتاح لأسامة
عكاشه من فسحه القول والتفكير للعديد من مشاريعنا لآتينا بالكثير دراميا على طريق ما
حاولته (يوميات محلة)، والعديد مما جاء بعدها
او تجاوزها، ولو اخذ كتابنا الدراميون انفسهم بالمزيد من الصبر لوجدوا أمامهم ثروة
من الأحداث والأفكار لا تسمح لهم بمعاودة ما يعودون اليه مرارا بهذا الشكل أو ذاك !
ذلك هو الأمر، حب
للدراما العراقية وثقة بقدراتها كلما قادنا عمل جديد للحديث عن قدرة هذا لفن على التوصيل،
لعلّنا نغار على ما لدينا، ونطوّر جيدنا، ولا أحسب ان ذلك خارج الموضوع بل أزعم انه
في الصميم منه، وفي الصميم من مسؤولية النقد.
ودونكم (أرابيسك)
هذه ..فهي انشغال بما لم يغب من اعمالنا الجادة منذ سنوات، انشغال في عمق التراث الاخلاقي
الاجتماعي الذي صان الشخصية العربية من كثير من التآكل الذي قد يحمله التطور وآثاره،
وهي بحث في الأصالة دونما صدود عن الجديد وحقوقه، من خلال أحداث وشخصيات حية تبدو لشدة
ما فيها من حيوية وصدق وحسن بناء، انك تعرفها وانها ومضت لك في (يوميات محلة) قاسم
محمد، او في (ناس من طرفنا) – يوسف العاني، او (الذئب والنسر وعيون المدينة) – عادل
كاظم، أو (عنفوان الاشياء) - صباح عطوان أو (الأماني الضالة)!! فدائما كانت هناك شخوص
مترعة بأخلاقيات رفيعة أصبحت من ثوابتها وسلوكا يوميا يدل على اصحابها، لكنها تاهت
في صراعات بقيت قريبة من المعتاد بأكثر مما يطمح اليه الفن، اما (أرابيسك) فقد انطلقت
من تجذر أريحية أهل الحارة الذين رضعوا المحبة وصدق النوايا من جذر أخلاق تقوم على
حب الخير والصدق مع النفس، غرستها ديانة صافية وتأريخ من الفعل، وغيرها انطلقت انحرافات
يأتي بها التغيير كما فعلت فريال (جيهان) شقيقة عدولة او رمضان الحضري (المنتصر بالله)
و سامبو (محمد شرف) وغيرها او لتصارع طباعا او شتاتا، اورثته عادات وثقافة الغرب فاربكت
رؤية الدكتور برهان (كرم مطاوع) وخطاه وتطلعاته، بل ولتحاوره حوارا بالعمل والتطورات،
فكنا في أيام حسن عبد الفتاح النعماني (صلاح السعدني) نتابع مصائر انسانية، بقدر ما
نتأمل في قضايا فكرية ترتبط بها .
فهذا وفائي (حسن
حسني) ليس الشيخ الذي يقعده او يعيقه شلل وعكازة قد يشيران الى القديم، خاصة وهو يتمسك
بالأثار القديمة ويتعلق بها، كما رمز اليها كرسي السلطان سليم، وليس المثقف الممتحن
بين حيرة ابنته العزيزة الوحيدة وانحدار صحته، بل هو يتكشف شيئا فشيئا عن رمز ثقافي
وفكري يدين الاضطهاد السياسي الذي افقده صحة البدن وعجز عن ان يفقده سلامة الرؤية وعافية
التعلق بالوطن ورموزه وتاريخه الجميل، بل ولا حتى القدرة على الحسم، كما فعل مع صهره
المنحرف تحت وطأة اخلاقيات النمط الغربي، وبذلك أنقذ حفيدته ضحى من أثار العيش معه
وأعاد ابنته الثانية (انوار – لوسي) الى دفء ارتباطات الوطن ومعاييره الأبقى. وبتلك
القدرة كان المكان والعقل المؤهل لترويض اندفاعات حسن النعماني التي لم تصقلها الثقافة
ولحماية الطاقة العلمية التي تمثلها الدكتور برهان من غدر الاعداء، ومحاورتها فكريا
والتغلب عليها منطقا وحسابا كما تمثل فوزه المتكرر على د. برهان شطرنجيا وكما لخصه
توعده اياه بالمزيد من الفوز !
ومثل شخصية وفائي
المترعة بالمعاني والدلالات، تحشد شخصية حسن أرابيسك لا بالمأثور، من خلال مهنته ومهارته
فيها، فقط وانما بمزاجية المجتمع المتآلف المتضامن ونقاء الروح التي ترضع من ذلك التضامن
وتنحاز للأصالة دون التلفيق وتجميع النقائض الى بعضها فيما يدعى معاصرة لا تنكر الاصالة !
لقد دلت معالجة حسن
لفيلا الدكتور برهان بتطورها من النقش كديكور الى التغيير، ثم الى الهدم وتفسيره لما
حدث بل وقدرته على التبرير الواثق على ان التحديث بطريقة التلصيق (الكولاج) اذا استطاع
ان يصنع متحفا فانه لن ينجز جديدا، بينما يستطيع الاصيل الذي يهضم تطورات الزمن ان
يفعل ذلك وان يتقدم يخاطب العصر، كما تدل مشاركة ورشة النعماني بالمعارض العالمية لا
كتحف تراثية بل وانما كقطع للاستعمال المعاصر بهوية اهلها واسلوبها الخاص، وما اكبر
وما اعمق هذه القضية فكريا مع انها جاءت محمولة على خيوط صراعات وحوادث اجتماعية بينها
العائلية وبينها المهنية وفيها الكثير من العواطف ونبضات القلوب العاشقة !
فتلك خيوط لابد منها،
فهي التي مدت حسن بنبع الحيوية وصدق انسانيته فهو لا يتوتر هو بشر في حارة شرقية يغار
على بناتها، ويرث مهنة الآباء ويتقنها ويضحى لأهله ويعشق الجميلات الأصيلات بين النساء
حتى يختار بين (الجدعنة) توحيدة – هالة صدقي، وروح بنت البلد فيه وبين دماثة أنوار
وتحفظ عشقها فيراه ثقيلا بعبء الامساك بالعصا من الوسط تارة والتمايل بينهما مرة اخرى:
وهو يصير موروثا يحتمل منطق العصر من تمرد الشباب ونزوعه الى التجديد والاستقلال، فلا
يقطع اخاه (حسني) - هشام سليم رغم الحاجة في التمرد والعناد مثلما يحتمل تجاوز شقيقتهم
وأنانيتها (سعاد) – ناديه فهمي، فيبقى لهما الراعي والملاذ والمعين مما تجد لرمضان
ان يثق بصدقه وأمانته فيوكله على عائلته وأمواله بعد ان راح يدفع ثمن انحرافه سجنا،
وهو خيوط لا تختلف في النوع ولا في المتانة عن خيوط نسيج حبكه عدّولة – سهير المرشدي
واخواتها، بل ولا خيوط نسيج عمارة - عزة ابو بكر ومهارته المهنية وحبه لعدّولة واميرة
في مكانها، وخيوط ام حسن– هدى سلطان وعدالة الام المحبة المغروسة في أرض تقاليد التضامن
الاجتماعي بشكل نسيج حارة (خان دويار)، حيث مهاد الحوادث والأفكار ليكون المكان وافرازاته
الاجتماعية مثلما هو صنيعة تاريخ من التفكير وطراز البناء والعلاقات. هو المقابل المجاور
والمصارع للعقل والحداثة الوافدة بروح بلا هوية، وكما رأينا فقد صار عبر الحوادث والحوارات
هو الحضن الذي منح الوافد الجديد هويته دونما انقياد له أو صدود عنه .
فما أكثر الأسئلة
والوقائع التي تثيرها تك العلاقة المتداخلة الممتدة بين الماضي والمستقبل عبر الحاضر
وما اكثر اللفتات التي تنتظر منا الوقوف عندها ؟
فلنشر الى تجديد
المسلسل لقدرة ممثلين معروفين، كادت القوالب المكررة ان تطمس قدراتهم كما حدث لأبي
بكر عزت في دور عمارة، حيث بدا شخصا واعيا (راهبا) اين منه قوالب ادواره السابقة، وكما
حدث لهالة صدقي في دور توحيدة، ولنشر الى دفقة الوجوه الجديدة الحلوة، المتمكنة المؤثرة
.. جيهان (فريال)، محمد شرف (سامبو)، عمرو محمد علي (شقشق) وغيرهم. ان تدشن هذه الوجوه
حياتها الفنية في أعمال بمثل هذا العمق والاهتمامات، مسألة غاية في الاهمية لأنها البداية
الصحيحة لشوط الفن المسؤول، وارضاعها مبكرا لبن الجدية والابداع الحق، ولقد تكرر ذلك
في اعمال سابقة لأسامة انور عكاشة .
واذا كانت اعمال
عكاشة السابقة في عهدة مخرجين رأينا لهم اكثر من عمل له كإسماعيل عبد الحافظ ومحمد
فاضل، فأننا هنا مع جمال عبد الحميد مخرج (أرابيسك) لا نفتقد القدرة على تحريك ذلك
الحشد الفني بمهارة، ولا دقة تصميم اللقطات او تطويع الديكورات والمكان بمتطلبات الحادثة
وماتقتضيه من حوار، مثلما كان فريق التصوير وادارته، بارعا في تفعيل العلاقة بين تكوين
الصورة وتوزيع الضوء والظل وزوايا اللقطة والمكان وحالات الشخصية .. مما يسمح لنا مرة
اخرى بالقول ان النص الممتلئ بالأفكار، اكبر الحوافز لكافة المفاصل الفنية على اعطاء
اقصى ما تستطيعه من ابداع، وذلك شأن الاعمال الكبيرة حين تنهض لمسؤولية الفكر ومنعته
الجمالية؟
* كتبت في ناحية مشروع المسيب الكبير.. نيسان 1994
|