قاسم عبد الأمير عجام*
خارج معطياتها العامة التي كتبت من اجلها، تؤكد ثلاثية "الحب والفأر
والكومبيوتر" مجددا ان الموضوع الجيد، مهما كان حيويا، لا يكفي لان يقوم وحده
بتغذية وتنمية عمل فني درامي، بل ان ذلك الموضوع لحيوته يتطلب المزيد من عناية
المؤلف وتدقيقه، والمزيد المزيد من صبر المخرج وتدقيقه في فحص دراسته مشاهده
وشخصياته، والا فكل ما يعد به عمق الموضوع لن يتجاوز الوعد او رسم فرصة للإبداع. ففي تلك الثلاثية، كنا ازاء قضية ساخنة من
قضايا التحول الاجتماعي باتجاه استلهام روح العصر، حيث الاصرار على التقدم في
مواجهة مصاعب وعثرات يفتعلها عدد ممن يرون ذاتهم في الاستسلام لما هو كائن، وحيث
يرتبط الاصرار بالتقدم بالوفاء لأجمل ما في بدايات التكوين وتطويره، فما أكبر
القضية وأحبها وما أقل الحصيلة الابداعية في تجسيدها بالشكل الذي رأيناه، وما بين
هذا وذاك ما أشد ألمنا وما أقساه ونحن نفقد فرصته كبيرة لعمل مؤثر. نعم ولقد كنا مع امتداد الثلاثية، نراها واهية
الايقاع، مع انها رؤية لصراع عميق، وما نكاد نتعرف على أبطالها حتى يشغلنا سلوكهم
تارة ونواياهم وحوارهم تارة أخرى، أو خلفية المشهد الذي يتحركون عليه تارة ثالثة
بالتساؤل عنهم: لماذا وكيف؟ وهكذا كان ضياع فرصة الابداع مسؤولية مشتركة بين
المؤلف وكاتب عادل كاظم والمخرج صلاح كرم.
المخرج صلاح كرم اثناء تصوير واحد من أعماله الدرامية ففي التأليف، كنا بحاجة لما يبعث بعض
الشخصيات الحياة التي ترسم أبعادها وتشير هويتها، فبينما نالت شخصية البطل (سعدي) حظا
أكبر من البناء والتعمق، افتقده ابواه معا، حتى لوقفة تأن تمنع شخصيتهما اكثر مما
بقي لهما ولم يبق لهما غير التعليق على حركة سعدي، في غدوه ورواحه، والادهى من ذلك
ان ذلك التعليق كان أكبر بكثير مما تحملته شخصيتهما، وحجم تأثيرهما في الاحداث،
ولذا بقيت خطوطا خارجية، لم تأخذنا الى اعماقها، وعانت شخصية المدير العام من تردد
في رسمها، فلا هي شخصية البيروقراطي ولا هي بالإداري الحازم. وهنا لا بد من ايضاح
اننا لا نستبعد ان يكون التردد سمة في بعض الإدارات حيث تزداد معاناة العاملين معها،
ولكن ما تعانيه هنا غير ذلك، اذ كنا مع المدير العام في جو يحيطه الإبهام، وكان
الاستاذ عبد الوهاب الدايني يجسد الشخصية بطريقة اقرب لسلوك المتصيد بجفاف يفتقر
لخشونة البيروقراطية (العريقة) ولا يوحي بهيبة التعمق بالأمور، ولذا لم يكن حسمه
باتجاه الإنتصار للعلم، الا موقفا تمثيليا فحسب لم يجد ما يؤصله في الممارسات. وحتى
الصراع الاساس نفسه، لم يجد الاسلوب الذي يتسع لما فيه من احترام، فاذا كان
الادعاء بمسؤولية الفئران عن عطل الموصلات الكهربائية لأجهزة الكومبيوتر، تعبيرا
رمزيا فيه بلاغه وايجاز، فان الاكتفاء به وعدم تعميقه، ولو بظلال أساسية، خفّف من
شحنة الاحترام، ونقل المسألة الى دائرة أقرب لمشاعر الاحساس بالغيرة او الحسد او
الخوف من المجهول، وبنفس الطريقة لا نحسب ان الاستاذ المؤلف كان بحاجة لان يحرم (علاهن)
من النطق لسبب غير واضح، ثم يحار في ابتداع سبب لإنطاقها، حتى اذا وجده جاء اكبر
من قياس شخصيتها، رغم قبولنا للمبدأ الذي قامت عليه فكرة انطاقها كتعبير عن جيشان
عارم لرفض الاستسلام امام عوائق التخلف. ولكن اين برودة شخصية علاهن ومحدودية
وعيها وهامشية تجربتها، من عمق الجيشان ومعانيه ومتطلبات الاحساس به؟ لذا كان يمكن
للشخصية ان تكون اكثر قدرة على النمو لو تركت ناطقة وكنا سنكسب فيها اشارتها الى
رموز جميلة وبهية في حياتنا، وكذلك ستكون مشاركتها في تقرير اختبار سعدي تعبير عن
مشاركتها الحياتية وتطلعاتها الى غد اجمل.
اما اسرة علاهن فقد تسابق المؤلف والمخرج في
تغريبها عن واقعها، فبينما اختزل المؤلف همومها كلها واحلامها، بهمّ اكبر وحيد، هو
تزويج علاهن لسعدي ابن عمها. ومما لم تألفه في تحفظ الاسرار الريفية، بالغ المخرج
في تشكيل ملامح سلوك وبيئة لا تعبر عن واقع أسرة ريفية، لاسيما زي الام، وشدة
وطريقة انفعال الاب، ورقّة الاخ، كما ان الديكور لم يكن موقفا في رسم منزل معبر عن
حياة افراد الاسرة، لاسيما تخصيص غرفة للفتاة فيها ما رسمته الافلام لفتيات في غير
دنيا علاهن، و بنمطية مملة جعل المخرج يختار البطء ايقاعا لأسرة سعدي والتوتر
اللفظي ايقاعا لأسرة علاهن، لكن ذلك التوتر جاء مكثفا في حوار الأب حتى اخرجه عن
طوره في اكثر الاحيان، وربما لهذا السبب لم يكن طالب الفراتي في أحسن حالاته وهو
يؤدي هذا الدور وانما على العكس تماما!!
وبنمطية اخرى تعامل المخرج مع شخصيات الادارة
كأنهم ليسوا من البشر، موظفا اللقطات الفردية القريبة على زوايا معينة في وجوههم
او بلقطات طويلة، ترسمهم كبيادق مرصوفة فكان يضيع لقطات معبرة بلقطات مبالغ فيها، كتلك
التي يفرش فيها كل مدير قسم جريدته أمامه! نقول هذا رغم فهمنا لحرصه على تشنيع
البيروقراطية الغبية، وبين محور الصراع بين القديم والجديد في الدائرة، وبين محور
الحب الاول ومحنة الحبيبة بالبكم، لم توظف حبكة الصداقة مع الدكتورة سمية وشقيقها
ماجد، بما يزيد من حيوية الاحداث وان كانت فرصة لسعدي للمزيد من البوح وكالعادة في
مثل ذلك الايقاع البطيء والتردد عن حسم قضايا الصراع وإلباس الشخوص غير لبوسها وإنطاقها
بأفكار ليست أفكارها، لا نتوقع ان نشهد اضافة في التمثيل حتى مما يدعو في اعمال
سابقة، ولكن لان شخصية سعدي توفر لها خط من البناء والعمق، فقد برز عبد الستار
البصري في واحد من اعماله الجميلة، بينما ادى الآخرون أدوارا عادية اقل بكثير مما
لديهم.
*لم تتضمن مسودة المقالة عنوانا ولا إشارة الى مكان
نشرها وزمنه. |