شاء الفنان أم أبى، واعتد بنفسه أم تواضع .. يبقى للفنان الذي يتواصل مع الجمهور عامل تأثير القدوة او على الأقل احتمال التأثير بالإيجاب أو السلب. ويزداد ذلك الاحتمال بسعة المساحة التي يتحرك عليها الفنان وقد ازدادت واتسعت احتمالات تأثير الفنانين بفعل اتساع وتعدد وسائل الاتصال المسموعة والمرئية. ومع ذلك الاتساع، كان امامنا وما يزال ان يمارس الفن رسالته في اغناء وقت المتلقي بالجميل والمفيد، صورة، لحنا، كلمات، حكاية عابرة او حتى مجرد تحية، غير ان الفنان لن يستطيع شيئا ما لم يتقدم من جمهوره بالمبهر والمهيب اداء وثقافة واسلوبا.
ذلك وتداعياته وأشياء اخرى انثالت على الذهن وانا اتابع برنامج (سليّ نفسك)* من تلفزيون العراق خلال أيام عيد الأضحى الذي ودّعناه للتو. فمن خلاله وعبر حلقاته القليلة التي أعدها واخرجها هاني الأنصاري، وقدمتها نضال على حسون، تابعنا فقرا معلوماتيا مريعا يعاني منه معظم من شارك في تلك الحلقات للإجابة على اسئلتها المتنوعة ومعظمهم ممثلين مسرحيين !! ولم يخفف من حزننا ازاء ذلك الفقر حركاتهم (الضاحكة) او افتعالهم النكتة للرد على ما يجهلون! بل كانوا يثيرون من الأسى ما قد لا يتصورونه فأولئك الذين يجهلون معلومات ليست بالغريبة ولا بالعصية على من يتابع، هم الذين يتصدرون المسارح وتعلن عنهم شاشته التلفاز واولئك الذين لا يسعفهم اطلاع في اللغة بل في بسيط اللغة، ولا في تاريخ أمتهم، هم الذين يسهمون في تكوين الذائقة الفنية للناس !! ولكن لا، فثمة في وسطنا الفني، مثقفون يغنون فنهم بالمعرفة الحرفية وما حولها وما في شأن بلادهم وتاريخهم، ما في شأن لغتهم وجماليتهم، ولقد رأينا وأستمعنا للعديد منهم يتدفقون حديثا شيقا ثريا يصدر عن تلك المعرفة فلماذا لم يذهب لهم البرنامج؟ لقد كانت الوجوه ذاتها تتكرر في كل او اغلب حلقات البرنامج بل في ذات المواقف والملابس والبوزات مما يدل على ان الاسئلة كلها ( سلقت ) في لقاء واحد ثم وزعت بالمونتاج على حلقات البرنامج وزوايا كل حلقة. وعندي ان تلك السرعة في صنع البرنامج، ان لم اقل طبخه، تعود للتوجه الذي يكشفه عنوانه (سلي نفسك) ! فالتسلية هي الهدف، وبما ان اكثر المشاركين من أهل التسلية المتفشية، فاليهم واليهم ذهبت كاميرا البرنامج وعدساته، ولنلاحظ بعضا من أغراض تلك السرعة في كتابة العنوان نفسه، فمرة هو (سل نفسك) مما يوحي بفعل الأمر من سأل يسأل، واذن فالبرنامج دعوة لسؤال النفس او المراجعة الثقافية لكن المقدمة الموسيقية ولحنها المفتعل تدعو لتسلية فيعود العنوان مكتوبا (سلي نفسك) وهو خطا إملائي تبرع التلفزيون بإشاعته !! أجل، وإلا لو كان الهدف المعرفي من وراء الاسئلة لذهب صانعو البرنامج الى أهل المعرفة لا الى أهل التسلية، والحق اننا لا نحسن التسلية الراقية في البحث عن اجابة لسؤال في الثقافة العامة، كما لا نحسن التسلية في انتظار الجواب من فنان يؤثر فينا او يمارس فعل التأثير في قطاع من الناس، بل ان صحة الإجابة ستكتب ثقلا إضافيا بل وتعليما حين تأتي على لسان شخصية عامة. حين يكون الحصاد عيونا زائغة ووجوها علاها الضحك تحت وطأة الإحراج او الخطأ المتكرر، فأننا نخسر التسلية وتبقى المعلومة التي يقدمها المعد مغلفة بالمرارة والأسف، على اننا مع فكرة البرنامج، نتمنى ان تتسع دائرته الى فنانين ومثقفين من كل الاختصاصات والاجيال، وان يتخلص البرنامج من نزعه افتعال التسلية، كما يستطيع ان يمد في عمره وان يوسّع في جمهوره من خلال تنوع الأسئلة وامتدادها الى فروع معرفية عدة مع توسعه في اختيار من يتوجه اليه بالسؤال، ليكون برنامجا للثقافة العامة يلعب تركيزه على الشخصيات العامة دورا أساسيا في الجذب والتشويق والانتباه، كما يحفّز بدوره عناصر المشاركة، او من يقع في دائرتها على المتابعة والاستزادة من الثقافة العامة. وفي كل الاحوال بات البرنامج او ما يشابهه مطالبا بإصلاح الخيبة، بمسح تلك الكبوات لصالح مكانه الفنان المثقف ودوره المعرفي وهو دور منسجم مع نأمله من التلفاز كوسيلة اعلام وتوجه وحتى تثقيف.
*لا تتوفر في النص الأصلي للمقال، معلومات عن وقت بث البرنامج، مثلما ليس هناك اشارة الى كون المقال نشر في منبر ما، أم انه مجرد قراءة نقدية لم تنشر في حينها.
|