علي عبد الأمير
صياغة الواقعة الاجتماعية موسيقياً
أسهم عبد الوهاب في إنضاج التيار الاجتماعي في الأغنية، حين قدم موسيقى عالية الصوغ الفني في "الاغنيات الوطنية"، فمعه لم تعد مجرد نفخ في الحماسة وإلهابا للمشاعر، بل هي احترام للوجدان الإنساني وهو يشتغل في واقعة اجتماعية او منعطف قومي ووطني مهم· وصاغ عبد الوهاب اثناء صعود "الناصرية" وهزيمة حزيران وما تلاها من أحداث، أغنيات بل أناشيد مؤثرة مثل "الوطن الأكبر" وروائع عبد الحليم "الوطنية" انتهاء برائعة فنية مثل "أصبح عندي الآن بندقية" لأم كلثوم وصولاً الى إعادة صوغ عمل سيد درويش الخالد "بلادي… بلادي" كي يصبح النشيد الوطني المصري·
هذه الصياغات الموسيقية تذكرنا بأهمية قضية لم تقف عندها التجارب التي حاولت المغايرة، الفكرية والفنية في الأغنية العربية، حين اهتمت بـ "ثورية" الكلام وروحه المتمرد وتركت الصياغة الموسيقية ضعيفة وباهتة، فماتت تلك التجارب لعدم عنايتها بجنسها أصلاً: أي كونها موسيقى، ومن هنا كان عبد الوهاب "تقدميا" أكثر ممن استهلكوا الوصف والمعنى من موسيقيين ومغنين.
صانع أعمال موسيقية كانت تثير الجدل دائماً
الكلام يطول عن محمد عبدالوهاب، ويكفي انه وضع بيننا أجراساً تواصل الرنين قبل رحيله وحتى الآن وستواصل ذلك الأجيال لاحقة، الا يكفي الـ1800 أغنية ولحن؟ قبل ان يختم ذلك العطاء المتدفق وضع "من غير ليه" التي جاءت ثمرة سجال طويل مع الزمن وخلاصة خبرة من صانع أعمال موسيقية كانت تثير الجدل دائماً، لا لفرادتها وحسب بل انها تكاد تغطي مختلف ألوان الموسيقى والتلحين والغناء وبمختلف الأساليب ايضا، وكان من مكنه قهر العامل الزمني هو انتماؤه الفكري الوثاب الى المستقبل، حين ظل شابا فيما أدركت الشيخوخة الفنية والعمرية ليس مجايليه وحسب، بل حتى أجيال موسيقية لاحقة .
"آينشتاين" الموسيقى العربية
لم يخرج العالم الفيزياوي اينشتاين على القواعد والقوانين التي رسخها نيوتن منذ قرون، إلا بعد ان تمكن من فهمها عميقا والنبوغ في تحليلها ، ومثلما فعل آينشتاين فعل محمد عبد الوهاب، فهو لم يخرج على القواعد والأصول المقامية والادائية التي ثبتها "المشايخ" من رواد الموسيقى في أوائل القرن العشرين، بل تعلم الأصول في مدرستهم الأساسية: حفظ القرآن وتلاوته، وفي بهو تلك المدرسة قوّم عبد الوهاب لغته العربية، وافتتن لاحقا بموسيقى تلك اللغة عبر الذخيرة الشعرية الهائلة، ومن التلاوات والقراءات القرآنية نهل من نبع ايقاعي ومصدر مقامي دونه الموازين الايقاعية التي قامت عليه أسس البناء الموسيقي ونظرياته، لا بل ان تلك المدرسة المتصلة بالتواشيح وفرت له اطلالة على "التصرف الحر" بالمقامات كما في اداء قراء التواشيح، وهي كانت درسا عميقا له في "الانتقالات المقامية" ستنعكس سلسة ورائقة في ألحانه وموسيقاه، وبلغ تقدير عبد الوهاب لمدرسته الأولى حدا انه نصح المطرب محمد ثروت الذي عرف بحلاوة صوت "قريبة" الى عبد الوهاب، نصحه بان ينكبّ على تلاوة القرآن وتجويده، فذلك معينه في تقويم اللسان والايقاعات والمقامات.
أقرب الى سيد درويش حين خطى عبد الوهاب خطواته الأولى في "كتاتيب" النغم كان من الطبيعي أن يصبح متأثرا بمدرسة تتكون أعمدتها من: الشيخ محمد رفعت ،الشيخ درويش الحريرى (أستاذ الموسيقار زكريا أحمد)، الشيخ أبو العلا محمد (ارتبطت ألحانه ببدايات أم كلثوم)، ولكن من طبع أولى البصمات على ألحانه وغنائه، كان رهط عبده الحمولي، محمد عثمان وسلامة حجازي، ويوفر الإستماع إلى قصائده الأولى فرصة للتبع النسق القديم فى الألحان كما في " يا جارة الوادى"، "أيها الراقدون" و" ردت الروح". قرابة عبد الوهاب شابا الى أساليب " الشيوخ" الثلاثة لم تخرجه وهو المتطلع الى حدائق النغم الفسيحة من "أزقة ضيقة"، ولم يتحقق له هذا الخروج الى الأمكنة الفسيحة الا بعد معرفته بالشيخ سيد درويش، الذي كان أول من أخرج اللحن من نخبوية الأداء والتلقي ( الصالونات والمنتديات) الى جمهرة عريضة عبر المسرح الغنائي، والتعبير عن هواء يتنفسه عامة الناس، فجاءت ألحانه صدّاحة رشيقة لا ثتقل نفسها كثيرا بالقوالب التي جاءت في معظمها تمثالا مع أساطين الموسيقى التركية. جرأة الخروج على الأنماط هي الرسالة التي استلمها عبد الوهاب من سيد درويش، وهو ما تحول لاحقا مبدأ انتمى اليها المطرب والملحن الشاب بعد وفاة "الشيخ سيد" الذي كان مسح الغبار عن ألحان "شعبية" وبث فيها روحا جديدة عبر التعبير الموسيقى الذي نهله من الغرب بمسرحه وأوبراته وفرقه الأوركسترالية. وفي حين يرى بعض الباحثين ان "صلة بسيطة" هي التي جمعت عبد الوهاب الى سيد درويش ومدرسته، الا ان هناك مؤشرات الى صلة جمعت عبد الوهاب بفرقة سيد درويش: "التحق عبد الوهاب بفرقة السيد درويش كأحد افراد الكورس، ثم أسند اليه السيد درويش دور البطولة في اوبريت "شهرزاد"، ثم اشترك مع منيرة المهدية في مسرحية "كيلوباترا ومارك انطوني"، وكان بدأ تلحينها سيد درويش، ثم أسند الى عبد الوهاب اكمال تلحينها، وكانت فرصة ثمينة لعبد الوهاب اذ لحن الأجزاء الخاصة بانطونيو في طبقات تناسب صوته"(3).
محمد عبد الوهاب كان أمينا لرسالة "التعبير الموسيقي" التي كتبها درويش، وانتظر من يعثر عليها ويفهم رموزها عميقا ويواصل بناءها، وهو ما توافر عليه عبد الوهاب الذي حفظ ألحان "شيخه" وخبر قيمتها، حتى ان باحثين تلمسوا في أغنيات عبد الوهاب جملا من ألحان الشيخ الراحل كما في "عشقت روحك"، "إمتى الزمان" و"يادى النعيم".
"تحديث" اجتماعي يترجمه عبد الوهاب حداثة لحنية فى ثلاثينيات القرن الماضي وبينما كانت ملامح الحداثة الغربية "تتأصل" في ملامح محلية مصرية ، في حقول فكرية واجتماعية واقتصادية، تلقف عبد الوهاب رسالة آخرى تعمق الخطوات التي خطاها بعد رسالة "الشيخ سيد"، فوقّع أحلى الحانه وأعذب اغانيه: بث روحا جديدة في الألحان رغم احتفاظه بالجوهر الشرقى للنغم، روحا لم يتردد في الاشارة الى مصدرها وبواعثها فهي من الموسيقى الغربية لكن دون ان يدير ظهره لموروثه النغمي العربي والشرقي بعامة، فهو لم يتخل مثلا عن " الأدوار" كما في "أحب اشوفك كل يوم" و" عشقت روحك"بينما كان صوته يشع عذوبة وجمالا في الحان "فى الليل لما خلى"، "أهون عليك"، " الصبا والجمال"، "جفنه علم الغزل"، "مضناك جفاه مرقده"، " يا دنيا يا غرامى"، "أحب عيشة الحرية" و"عندما يأتى المساء".
واذا كان "التحديث الاجتماعي" قد أرسى دعائم فكرية وفنية في مصر خلال الثلاثينيات، فان من تلك الدعائم كانت صناعة السينما، وهي رسالة ثالثة التقط عبد الوهاب الاشارات المضمرة فيها، وقرأ في تلك الصناعة وسيلة اتصال ثقافية جماهيرية للمستقبل، وما ان اجتاز عقد الأربعينيات سنواته الأولى الا وكان عبد الوهاب " نجما سينمائيا"، فضلا عن نجوميته الوضاءة في عالم النغم فغنى في أفلامه روائع منها: "جرى اجرى"، "طول عمرى عايش لوحدي"، "يا مسافر وحدك"، "ما كانش ع البال"، "انسى الدنيا "، "بلاش تبوسنى"، "ردي عليّ"، "لست أدرى"، " أحبه مهما أشوف منه"، "حكيم عيون" و "يادى النعيم ".
بنية موسيقية متطورة في غناء القصائد
لا يمكن للباحث والمؤرخ في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة، الا الوقوف طويلا عند غناء القصائد بحسب ما أبدعه محمد عبد الوهاب، لا في مقاربته "الغناء المتقن" اي المعتمد نصوصا من فحول الشعراء، انما في بنية موسيقى متطورة كانت الأساس اللحني لذلك النمط من الغناء، حد ان التوافق الإبداعي وصل أوجه في عدد من " القصائد المغناة" فالمستمع يحار أين يمعن النظر: هل في البناء الشعري قوي السبك والمعنى، أم في البناء اللحني الذي قارب شكل "الموسيقى المجردة" وهو الذي لم تعرفه الموسيقى العربية على نطاق واسع من قبل؟ قد تكون ذخيرة عبد الوهاب في اللغة العربية أعانته، وقد تكون رفقته "لأمير الشعراء" عمّقت معرفته بموسيقى الشعر وسهّلت اختياره موضوعات قصائده المغناة، ولكن موهبته هي التي جعلته يجيد تصويرتلك القصائد موسيقيا وطبعها بملامح الابداع الخالد، حتى ان قصائد "الجندول"، "الكرنك"، "كليوباترا"، " دعاء الشرق"، " فلسطين "، "النهر الخالد" وغيرها صارت في عمق الثقافة العربية المعاصرة. في ألحانه "كان حين يلحن القصائد يدخل جوا من الجدية والرهبة، وان الحانه الخالدة مرتبطة بالشعر الفصيح اكثر من ارتباطها بالشعر العامي" (4)، تلك امتزجت التعبيرية والتصويرية الموسيقيتين وهما من الملامح الجديدة على اللحنية العربية مع البناء الفخم الكلاسيكي، ومن هنا هي التي تستحق وصف " الأغاني المتطورة"، وليست أغنيات المرحلة التالية التي ضمت "القمح"، "عاشق الروح" ، "الحبيب المجهول"، " أنا والعذاب وهواك"، "بافكر فى اللى ناسينى"، "لا مش أنا اللى ابكى" التي انطوت على "خفة لحنية " لا تخفيها الألحان الثلاثة الاخيرة.
*الجزء الثاني من بحث مطول والأول نشر هنا بحسب الرابط أسفل الصفحة
(3) "المعاصرون من رواد الموسيقى العربية" ، عبد الرحمن توفيق زكي الهيئة العامة المصرية للكتاب 1993. (4) الياس سحاب، كتاب "دفاعا عن الأغنية العربية"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت 1980. ربع قرن على رحيل عبد الوهاب: حين ينتمي الموسيقي الى المستقبل(1)
|