علي عبد الأمير* هل كان ذلك محض صدفة؟ أن أنجذب الى عوالم خارج السياق
الذي كانت تنضوي فيه حياتي: أن أذهب الى نتاج فني لم أتشكل في بؤرة تفاعلاته الحياتية
والاجتماعية، لكنني وجدت نفسي في تدفق تياراته وبواعثه الأساسية وظواهره الأكثر تحديثا.
ما الذي جاء بي الى لقاء "الاغتراب" الأجمل
من حلم؟ كيف انتهيت الى هذا التعايش الحميم بين صخب حياتي الذي سببته حروب ومخاوف
وإنكسارات، وبين محبة للأنغام ستتحول غواية وجدتني أزداد إنغماسا فيها حدّ انها أصبحت
دالة عليّ، إسما ومعنى!
انها الموسيقى، غناء أو ألحانا صرفة " الموسيقى
البحتة" وبأشكالها الأكثر تحديثا، وبالذات تلك التي ينتجها (الآخر) وما تتضمنه
من رسائل تبث الى بقاع العالم المختلفة، أو حين تكون لحظة مختصرة للتعبير عن جوانية
غاضبة أحيانا، متأملة قليلا، ولكنها "مغايرة" في كل الأحوال.
هو "إغتراب" بدا أجمل من حلم"، أنه
أقرب الى ذلك المفهوم alienation الذي طوَّره إريش فروم، مؤكدا على كونه صلة بين الإنسان ومحيطه، وربطه
بتوجُّه أخلاقي ونفسي، ليس وليد الصراع الاقتصادي (كما قال به ماركس)، وليس نتاج الصراع
الجنسي (كما نظَّر له فرويد)، بل هو نتاج أمور وجودية، شخصية الطابع، إجتماعية المنشأ،
وَضَعَها في إطارها الإنساني الأوسع.
والاغتراب، كمفهوم ذي دلالات، يمثل نمطًا من تجربة
يشعر فيها الإنسان بالغربة عن الذات: فهو لا يعيش ذاته كـ"مركز" لعالمه أو
كصانع لأفعاله ومشاعره. ومعاني الإغتراب متعددة، اجتماعية ونفسية واقتصادية، ويمكن إجمالُها في انحلال الرابطة بين الفرد والمجتمع،
أي العجز عن التبعية أو بحسِّ الانتماء إلى فردانية مؤثرة أو مسار إجتماعي متناغم
وموحد، وإلى أي سياق جمعي آخر، يصبح المرء مرهونًا اليه، فيكون، والحال هنا، مستلَبًا
alienated.
وهذا ما يولِّد شعورًا داخليًّا بفقدان الحرية والإحباط والانفصال عن المحيط الذي يعيش
فيه.
والإغتِراب، في اللغة، هو مصدر اِغْتَرَبَ، واغْتِرَابَ
الإنسان، هو هِجْرَتَهُ البَعِيدَةَ، فيقال قَضَى جُلَّ حَيَاتِهِ فِي اغْتِرَابٍ،
وهو هنا أقرب الى التفسير المكاني- الجغرافي، بينما الأقرب في دقته الى رؤيتي
الشخصي، هو إغتراب النَّفْسِ، أي شُعُورُهَا بأنها غريبة عن مجتمعها، فتلجأ إلى العزلة
عنه. هذا ما بدأ شخصيا عندي، من نغمة راقصة في اغنية Yellow River في العام 1970 وجدت صدى في ذائقتي المتقلبة
وتطلعاتي التي كانت تتوزع حينها بين رغبات من نوع: أن اتحول الى المسيحية، رغم أنني
من بيت وثيق الصلة بالمرجعية الشيعية، أو "التطوع" في المقاومة الفلسطينية،
أو وضع علامات "الهيبيز" على مواقع من ثيابي او أحذيتي.
واذا كانت الغيمة الرومانسية في اغنيات فيكي لاندروز
تحط قريبا من أكتافي، فان اغنية She is a lady لتوم جونز كانت كفيلة
بفوران لحنها ان تدفعني الى عالم حسي بدأت من خلاله اكتشاف الجسد الأنثوي ومباهجه،
حد انه ذلك الإكتشاف بلغ جماله المطلق مع اغنية
Venus التي رقصت على لحنها الإيقاعي الرشيق صحبة فتاة جريئة في مرقص مفتوح كانت
توفره كازينو "لونا بارك معرض بغداد الدولي". بغداد يومها مدينة مفتوحة وقلبها
منتعش بالأمل. ولن انس ما حييت ملامح مراهقة جميلة كانت تسأل في محل لبيع الأشرطة الموسيقية
بشارع السعدون عن أغنية Sex Machine للمغني الاميركي
جيمس براون.
كان ذلك في " اعدادية المأمون" 1970-1973 حين تعرفت الى شبان
مهوسين بالنغم، ومعهم اكتشفت ثراء روحيا في أغنيات "البيتلز"، ومن خلال بوابة
الفريق الإنجليزي الشهير بدأت صلة بالأنغام بوصفها قراءة اجتماعية.
علي عبد الأمير (الأول من اليسار) في اعدادية المأمون 1971
هل لأحلامي تلك ان تشيخ إذ أستعيدها اليوم بعد اكثر
من أربعة عقود؟ ها أنذا أشكّل تاريخا شخصيا لبغداد من خلال الموسيقى وتحديدا الموسيقى
الغربية المعاصرة منها والكلاسيكية أيضا، غير ان الأمر ليس مجرد حكاية نغمية ولا مجرد إستعادة نساء تغمرهن
عاطفة وهّاجة، أو بهجة جمع أنيق من رجال ونساء، يخرج من حفل موسيقي شهدته بغداد أواسط سبعينيات القرن الماضي للمغني الظاهرة في حينها، ديميس
روسيس، أو من حفل لموسيقي الجاز الأميركي الشهير، ديوك ألينغتون، ولا حتى أولئك "الهاي كلاس" حقا في سلوكهم وروحيتهم ممن كانوا حريصين على متابعة السيمفونيات والكونشرتات والأوبرات، عبر حفلات حية في العاصمة العراقية، أو تلك الإسطوانات التي كانت تضج بها مخازن المعرفة والجمال في بغداد، أنه بحث في ثنايا ذلك الإغتراب الجميل، الذي إنشغل فيه مؤلفون موسيقيون وعازفون ومغنون عراقيون أختاروا شكلا تعبيريا مختلفا عن النغم السائد في بلادهم وثقافتها وذائقتها. * جزء من مقدمة كتاب أعكف على كتابته عن النغم الغربي، المعاصر منه والكلاسيكي، في العراق. |