علي عبد الأمير اذا كانت هناك
نتاجات لحنية وغنائية عراقية، وصلت مستويات رفيعة في مقاربة آمال الإنسان المتعب وتطلعه
الى حياة من السلام والخير والعدل، فان من بينها قطعا، إنتاج الملحن والشاعر طالب غالي، أبن
البصرة، الحاضنة المدينية الكبرى بعد بغداد. في مدينة السياب، التي كانت شهدت
انفتاحا فكريا وثقافيا واسعا بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي، بدأت إطلالته على
الثقافة وعبر جناحين: الشعر والموسيقى، فمع الأول نتذكر قصائدة الأولى في غير مجلة أدبية وثقافية رصينة، بينها مجلة "الكلمة"، ثم ديوانه "حكاية
لطائر النورس" 1974، ومع الثاني، نتوقف عند نتاج غني، بدأ 1961 مع فرقة "إتحاد
الطلبة العام في الجمهورية العراقية"، كعازف ومطرب، ثم أصبح عضواً في "الفرقة
البصرية" التي تشكلت عام 1964، وكتب لها ولحّن أغنيات لم تظل على نطاق ضيق داخل قاعات
البصرة ومسارحها، انما عبرت الى أفئدة أجيال شابة، كانت تغذ الخطى، كما بلادها،
نحو المعرفة، وتعتبر الفنون الجميلة والثقافة المعاصرة التقدمية، هوية لا بد من
تحقيقها.
لاحقا، وفي
أجواء من الإصرار والتحدي والتجديد التي عرف بها جيل الستينيات الثقافي في العراق،
أنبثقت فكرة تقديم "أوبريت" غنائي ضمن عمل موسيقي رصين، يتخطى شكل الأغنية
الفردية الذي يكاد يختصر النتاج النغمي الشعبي، فكان أوبريت "بيادر خير"،
الذي صار علامة مؤثرة في تاريخ المسرح الغنائي العراقي، وشارك فيه غالي. وعبر نجاح لافت لذلك العمل، اتجهت
النية الى ثان لا يقل أهمية عن الأول، فكان أوبريت "المطرقة" الذي قدم
في 1/5/1970 بمناسبة "عيد العمال العالمي".
الحدث المسرحي
الغنائي الذي صاغ ألحانه طالب غالي، شهدته "قاعة الخلد ببغداد"، وهو
المكان الذي سيشهد، ولكن بعد نحو تسع سنوات، مجزرة حقيقية صارت مدخلا لعصر الطغيان
الرهيب، حين أعدم صدام حسين عشرات القادة في حزبه، ممن كانوا حضروا الى القاعة على
اعتبار انها ستشهد مؤتمرا طارئا للبعث الحاكم. وفي العام ذاته، أي 1979، كانت حفلة
الإنفتاح السياسي والفكري التي شهدتها سبعينيات القرن في العراق، قد شارفت على
النهاية الدموية، ليبدأ الملحن والشاعر طالب غالي، مشوارا آخر إنسانيا وفكريا أسمه:
أناشيد المنفى.
طالب غالي على العود في جلسة غنائية مع رفيق أحلامه وألحانه فؤاد سالم على الأرجح نظر طالب
غالي، مطولا الى ثنايا روحه المسكونة في بيت الآمال والأحلام، قبل أن يقرر الرحيل عن
البصرة ليتوجه إلى الكويت، وفيها يبدأ مشوارا ممتزجا بالأشواق والأمل والشجن عبر
مزيج من الألحان التي جاءت ضمن ثنائي سيجمعه بأبن مدينته وفكرته: المطرب فؤاد سالم،
ويتواصل الى خمس وعشرين أغنية، بينها رائعتا الجواهري " دجلة الخير"
والسياب "غريب على الخليج"، ثم ينقطع هذا المشوار، اذ يترك غالي الكويت،
بعد ملاحقة الكابوس الصدامي، الى الأردن، ومنها الى الأتحاد السوفياتي السابق، ثم
الى الدانمارك مستقرا دائما وملاذا. عادة ما يقترن "الغناء الختلف" أو ما اصطلح عليه "الغناء السياسي أو الوطني او المقاوم" بغلاظة في النبرة وحماسة خارجية واستعراضات فكرية وشعبوية وحزبية ان شئنا الدقة أكثر، الا انه مع الوسيم في لحنه ونبرته وجوانيته الشاعرة طالب غالي، يأخذ طابعا روحيا عميق النبرات والحاني على النفوس. هذا مثلما هو جوهر عمله الشخصي في الموسيقى الا انه ابعده عن "التعبوية" السياسية والحزبية. انه ربح ذاته وجعل ألحانه تقطر عذوبة حتى في نشيدها المجروح مع وطن مثخن بالجراح وانسان أخرج من مداره الإنساني عنوة. * جزء من بحث مطول. |