علي عبد الأمير من شاهد عرض " الملحمة البابلية: جلجامش"، للمخرج سامي عبد الحميد
في اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، في العام 1977 ، توقف على الأرجح عند عرض
موسيقي مواز للمسرحي، فثمة أنغام مختلفة، نابضة وحيوية، بدت أمينة للتاريخ والمكان
الرافديني المتخيل. وكانت المفاجأة انها من وضع موسيقي شاب، اسمه جعفر الخفاف،
ليصبح لاحقا ملحنا له أثره
الواضح في مسيرة الأغنية العراقية، فلقد غنى له في جزء من عقد السبعينات وعقد
الثمانينات، معظم الأسماء المهمة في المشهد الغنائي العراقي.
وقد تكون الحكاية
التي سردها الملحن فاروق هلال(1) عن الخفاف في بواكير عمله الموسيقي، اشارة لا تخفى على ان ملحنا عراقيا
شابا، سيكون ذلك المتمرد المسلح بالوعي الموسيقي وروح الإبتكار: "في اول ظهور
للخفاف، كنّا نشرف على الغناء في العراق. الملحن الخالد طالب القره غولي على الاذاعة
والتلفزيون، وانا على المنظمات الجماهيرية، ولم يكن لنا منافس نتخوف من تأثيره علينا،
ولكن حينما استمعت الى اول لحن لجعفر الخفاف ذهبت فورا الى الملحن الراحل طالب القره
غولي وقلت له:؟ لقد اهتزت عروشنا يا طالب بظهور الملحن جعفر الخفاف فمن الآن وصاعدا
يجب ان نحسب له ألف حساب، فهذا الشاب يعتبر أخطر ملحن، ومجدد، ويستخدم التوزيع الموسيقي
في اعماله. كما انني شعرت بالفرح عند ظهور مثل هذه الطاقات الخلاّقة فطلبت من الخفاف
ان يكون ملحنا لـ"الفرقة النغمية المركزية الشبابية" التي أشرف عليها، وصدق
ظني فقد قدم عشرات الالحان الناجحة دون ان يضاهيه احد"، ونبوءة الفنان هلال لم تتجسد مثلما تجسدت في لحن
بارع صاغه الخفاف باقتدار، ولصوت المطرب فاضل عواد عبر أغنية "عاش من شافك"،
التي لعبت على مناطق نادرة في رقتها، ينطوي عليها صوت المطرب السبعيني الشهير.
لحن فريد
الروح المتجددة في عمل الخفاف، هي ما
اوجزها الملحن محسن
فرحان بقوله: " حين كان ملحنو جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات يقدمون اعمالهم
ومن الصعوبة اختراقهم، جاء الخفاف ليثبت مكانه بينهم وبجدارة عالية عبر اعمال لحنية امتازت بجمل موسيقية متجددة ومقدمات عذبة"، ويأتي لحنه
في أغنية "آن الأوان" بأداء الراحل رياض أحمد تطبيقا للمعنى الذي ذهب اليه الملحن الكبير فرحان، وتجسّد مرة اخرى
في اللحن الفريد لأغنية "مجرد كـلام"، وفيهما يمكن القول انه اذا كان الملحن كوكب حمزة، اكتشف صوت المطرب رياض أحمد،
فان جعفر الخفاف رسم صورة مدهشة عبر الحانه لصاحب اقوى صوت غنائي عراقي في السنوات
الثلاثين الماضية.
ولأن الخفاف كان
ملمح النضوج بين الجيل الشاب، فقد وصفه الناقد عادل الهاشمي: "جعفر الخفاف جدّد
في الاغنية العراقية، واضاف الجماليات الراقية والبهجة والوقار للأغنية الشبابية"،
وهنا ينطبق الوصف على مثال حقيقي قدمه الخفاف في لحنه "نحب لو ما نحب" بأداء
رقيق من الثنائي سعدون جابر و سيتا
هاكوبيان ، التي غنت له ووفقا
للمثال ذاته "دار
الزمان وداره"، وفي اللحنين ربحت صاحبة الصوت الناعم حد الخفوت احيانا، مساحات
للتعبير لم تكن قد عرفتها من قبل.
سعدون جابر وجعفر الخفاف
وفي سياق
المراجعة النقدية للمسارات اللحنية متعددة المستويات في تجربة جعفر الخفاف، لا بد
من التوقف عند براعة لحن اغنية "تحياتي إلك" بصوت الأنيس الاداء حسين
نعمة، حد انه جعل تلك الأغنية ترقى الى اجمل ما غنى صاحب "يا نجمة"، على الرغم من فارق في
الخبرات والمعرفة الموسيقية بينهما، بل ان لحن الخفاف بلغ من التأثير حد انه ابقى
مساحة تأثير لصوت نعمة، امتدت من عصره الذهبي: السبعينيات الى عقد الأزمات والحروب
والتغيرات النغمية والثقافية، عقد الثمانينات(2).
أسى شفيف لا حزن
ثقيل
وثمة مشوار خاص للخفاف
مع صوت المطرب رضا الخياط، الذي قطعا ما كان قد وجد حيزه في المشهد الغنائي
العراقي المعاصر، لولا ألحان الخفاف، فلو استعدنا اغنية "مستحيل" لوجدنا
صوغا بارعا للاسى الشفيف دون ذلك الحزن الثقيل المدمر للنفس، والذي اعتادت عليه
اللحنية العراقية في مقاربتها لأشواق العاشقين الذين ابتعدوا عن بعضهم قسرا، ولولا
رخص في معدن صوت الخياط وشعبيته المبتذلة، لكانت الحان الخفاف :
"مستحيل"، " والله والله لو مشوا" و"أحرق بروحي حرق"،
صعدت مستويات اعلى مما وصلت اليه، فهي كانت تستحق الأجمل من مساحات التأثير في المتلقي،
لاسيما ان وقت البذاءات الذوقية كان لم يكن قد حل بعد.
ولأن العراق مجبول على خسارة كثيرين ممن
اسندوا البناء الروحي فيه، كانت طبيعية تلك الخسارة التي مثلها صوت المطرب الوديع
صلاح عبد الغفور، التي أثث المشاعر بأداء راق في أغنيات صاغ الحانها وببراعة جعفر
الخفاف مثل: " خسرتك يا حبيبي" بحزنها الثقيل المتعب، و"تهانينا يا
أيام" بلحنها المبتهج بإيقاع جميل أغناه
بآخر في لحن اغنية "من غيرك محيرني"، أو "فرصة سعيدة". وما بين
"ثقل" في اللحن الأول و"خفة" في اللحنين الثاني والثالث، جاء
لحنا " انت والأيام" و"الرحيل" في مستوى آخر، لكنهما لم
يجد ما يستحقان، حين خذلهما التوزيع
الموسيقي والعزف المربك ايضا، وبالذات في "أنت والأيام".
شمس الوطن وصرخته
و في عمل كان اشبه بصرخة أمل وغضب وتأكيد
وجود لقطاع عريض من ابناء العراق وفي اوقات عصيبة مريرة، اعقبت حرب الخليج الثانية
1991 وما رافقها من عقوبات قاسية اصابت روح البلاد وجسدها وفكرها، جاء لحنه
"الشمس شمسي"، الذي أغناه بأداء مجروح من صوته، ليكون خاتمة تجربة لحنية
فريدة حقا بالكاد قاربت العشرين عاما لكنها شعت بالفريد والمتعدد المستويات
التعبيرية، ومثلما عرف كاتب السطور، انغام الخفاف عبر عمله في "الملحمة
الرافدينية" اول مرة ووجده متفردا وعلى حدة فعلا، كان لحن "الشمس
شمسي" خاتمة مشوار في تذوق تلك الانغام، حيث ان الأول غادر البلاد الى مساحات
اخرى من الأشواق والأمل، فيما الثاني كان على وشك اتخاذ قرار مماثل سيكون ذا تأثير
حاسم على سيرة حافلة بالموسيقي والانغام الرفيعة.
اللحن المثقف
و لبراعته، فقد عرف
موزّعا موسيقيا لأعمال ملحنين سبقوه الى الانجاز الغنائي، ومنهم: محسن فرحان، فاروق
هلال، طارق الشبلي، وغيرهم، فضلا
عن تواصل عمله في ميدان الموسيقى التصويرية للكثير من المسرحيات والأعمال الدرامية للسينما
والإذاعة والتلفزيون، فبعد مسرحية "ملحمة جلجامش"، وضع موسيقى مسرحية "الاستعراض
الكبير" للمخرج سعدي يونس، و مسرحية "الملك هو الملك" للمخرج
عبد المرسل الزيدي، ومسرحية
"النجمة البرتقالية"
للمخرج محسن العزاوي، فضلا عن الموسيقى التصويرية لمسلسل "نادية"
والمقدمة الغنائية "شجاها الناس" التي أداها بصوته المطرب الشاب (حينها)
كاظم الساهر، الى جانب الموسيقى
التصويرية لأشهر فيلم
وثائقي عراقية، هو "حكاية للمدى" الذي أخرجه الراحل بسام الوردي، وظفر
بجائزة "مهرجان الفيلم العراقي" العام 1979.
انه بذلك كان يمثل نهجا فريدا في اللحنية
العراقية، نهج الملحن المثقف، متعدد المعارف والمنفتح على كل ميدان يتصل بنتاجه
الروحي، مثلما كان يمثل نبض الثقافة المدينية، بتعدد مستويات انتاجه النغمي وغناه
ايضا.
الخفاف: أي أنغام على شواطىء المنفى؟ ومع رحيله الى الامارات في تسعينيات القرن
الماضي ثم منها للإقامة في المنفى السويدي، سعى الخفاف على ان يكون حاضرا، متواصلا
مع سيرة من حقه ان يفخر بها، لكن ما انضجته الحاضنة الاجتماعية والجغرافية
العراقية من ثمار لحنية نادرة، ليس بالضرورة ان يكون موجودا في ظروف الرحيل
والمنفى، حتى وان اجتهد صاحبنا وثابر.
الخفاف معادلة عراقية صعبة الرموز
والتفاعلات، لكن حلها بسيط تماما: روح مكان يقارب الاسطورة في آماله وآلامه.
(1) رياض المحمداوي، جريدة "الزمان".
(2) علي عبد الأمير، "الاغنية العراقية مرآة عصرها"، مجلة "اوراق ثقافية" - عمّان 2000
|