علي عبد الأمير
ذات يوم في العام 1973 غاب منصور الرحباني بسبب
أزمة قلبية عن افتتاح المسرحية الغنائية " المحطة " فكانت ان غنت له فيروز
"سألوني الناس" بحسب لحن مشبع بالوجد والروح الشرقية العميقة، لحن كان صاغه
ابن السابعة عشرة، زياد الرحباني معلنا بذلك ولادة ملحن سيأخذ من والديه عبقريتهما،
ومن حريتهما ودأبهما قدرة على الإبتكار الشخصي لا تهدأ. بعد "سألوني.." كتب
زياد ولحن لفيروز اغنية "نطرونا كتير" في المسرحية الغنائية " لولو"،
ثم وضع الإفتتاح الموسيقي المدهش في " ميلوديته" ولحّن اغنية "حبوا
بعضن" في المسرحية الغنائية " ميس الريم ".
فيروز وزياد: صورة الفنان متجددا
عكست علاقة فيروز بزياد والتي تعمقت مع انقطاع منصور وعاصي الرحباني عن
التعاون معها، وعيا متقدما من فيروز لفكرة ان الفنان يمثل اعلى وعي للتجدد، ودون هذا
فانه واقع في النمط والمثال المقدس الذي يتحول الى علامة لجفاف نبع الإبداع. فيروز
راهنت على قرار هو الأخطر في حياتها، قرار
استمرارها بالغناء وفق مرحلة جديدة يرسمها صاحب الفكر المشاكس والوعي الموسيقي المشاغب،
نجلها زياد القادم من ازمات الحرب اللبنانية وفق مرجعية سياسية يسارية، هي على الضد
من وعي "مثالي" نمطي كان الأخوان رحباني يقدمان فنهما وفق بواعثه الأساسية .
الحساسية الغنائية الجديدة لفيروز، بدأت تأخذ شكلها
الواضح الملامح مع الإسطوانة الأولى لها بتأثير زياد، اسطوانة "وحدن" التي
اخذت اسمها من اسم قصيدة صاغها بابداعه اللافت، الشاعر طلال حيدر، وجرّب فيها زياد
صوت ايقونة الغناء العربي وفق مسارات لحنية لا تخجل من اعلان تأثرها بـ "موسيقى
الجاز". الإسطوانة التي صدرت العام 1978 ضمت تلويحة من الأخوين رحباني ولكن ليس
موسيقى هذه المرة، وانما عبر كلمات " انا عندي حنين ".
وتعمقت اغنية فيروز الجديدة (حسب الحان زياد) في
اسطوانة " معرفتي فيك " العام 1987، ففي انتقالة خطيرة من كونها "جارة
القمر" المحلقة في اجواء الرومانسية والبراءة المثالية الى كونها عاشقة من عصرنا
المأزوم و" الواقعي" اكثر مما ينبغي، جاءت اغنياتها كما في "معرفتي
فيك" التي كتبها زياد ولحنها، و"خليك بالبيت " التي كتبها جوزيف حرب،
واغنية "عودك رنّان " التي جربت من خلالها فيروز الغناء النقدي الإجتماعي
الساخر الذي كان زياد قد خبره من خلال مسرحياته "فيلم اميركي طويل " و"
نزل السرور" واسطوانتيه "شريط غير حدودي" و" انا مش كافر " .
حين صارت امرأة "واقعية" من عصرنا المأزوم فيروز في هذه الإسطوانة " صدمت" عشاق صوتها و مزاجها الغنائي الذي طبعه الأخوان
رحباني، فلا "ميادين" ولا "قناطر" ولا " قهوة عالمفرق"
و" اقمار" ولا "بتشتي الدني"، إنما: "معرفتي فيك / إجت عزعل
/ معرفتي فيك / كانت مش طبيعية" او " خليك بالبيت / هلّق حسيت" . المفاجأة
كانت من فنانة تعرف تماما ان كل شيء الى تجدد، وان العالم يتغير، وصوت " رياح
التغيير" لابد ان يكون حاضرا في اغنياتها .
ومع اسطوانة " كيفك انت " 1991 ، تواصلت فيروز " الجديدة
". اغنيات خرجت بالعاطفة الى ملموس يومي وتفاصيل العيش، فثمة العاشقة التي تلتقي
حبيبها بعد غياب لتسأله ان كان "برات البلاد" وتكتشف انه اصبح لغيرها، بل
له اولاد ! وهذا كان ملمحا لشغل على الموسيقى والكلام، تمكن عبره زياد من ان ينزل فيروز من آفاق الرومانسية المحلقة الى المحسوس
الأرضي. ولو امكن للمستمع ان يتمهل في سماعه اغنية "عندي ثقة فيك " التي
ضمتها الإسطوانة لوجد انه برفقة واحدة من افضل اغنيات فيروز ليس في مرحلة التعاون الكلي
مع زياد وحسب، بل في عموم تجربتها .
ومضت فيروز عبر اسطوانة " مش كاين هيك تكون "، 1999 خطوة اخرى
في نهج حداثتها الغنائية، حين اكدت ومن خلال مبدع مثل زياد لا يكلّ من البحث والإبتكار،
انها فعلا ابنة لحظتنا المأزومة المتوترة " ضاق خلقي ياصبي / من هالجو العصبي"،
فضلا عن اغنية حفلت بتهكم من وقائعنا الراهنة التي فقدت فيها حتى الأشياء البسيطة، طعمها وتأثيرها على الإنسان،
وهي الأغنية التي منحت الإسطوانة عنوانها " مش كاين هيك تكون". رثاء فيروز
لأوقاتنا وتهكمها منها، منح صاحبة اغنية
" يارا " صورة متوهجة، وعامرة بالحياة ومكتظة بالحيوية، اين منها اغنيات
مطربات في عز الصبا، بحيث تبدو اغنية فيروز معها، من مزاج عصرنا ونبضه، فيما اغنيات
" الشباب " خافتة وتورث الملل رغم ضجيجها الإيقاعي .
الأمر ذاته يتواصل مع اسطوانة " ولا كيف"
2001 ، ففيها تظهر صاحبة الشجن الجميل في اغياتها ، شجاعة من نوع خاص، شجاعة تليق بمبدعين
كبار حين غنت في تلك الإسطوانة للعذراء مريم، وللشيوعي " صبحي الجيز " .
قد يكون لحماسة زياد دورها الحاسم في هذا الشأن،
لاسيما انه مازال يؤمن عميقا بالدور الإنساني، وان دورا ثقافيا وفكريا تلعبه الموسيقى،
غير ان المؤكد يظل في استعداد فيروز النبيلة والشجاعة على ان تتحدى حتى صورتها الثابتة
لدى قطاع عريض من المتلقين، إيمانا منها بان الفنان هو الذي يتجدد، بل الذي يتجاوز
نفسه.
حين تغني فيروز في كل الصباحات العربية يأخذ الوقت
ملمحا آخر، حتى انها لفرط ارتباطها بالذاكرة، رمزا للصباح، بل هو بدونها يبدو مضطربا
ومفتقدا لمعناه في تجدد الأشياء. وفيروز رمز انساني عميق، غالبت تحديات الحرب اللبنانية،
بل انها كانت الوحيدة القادرة على جمع اللبنانيين وهم في اعنف مراحل اقتتالهم !
فيروز حين تغني .. تكون أقرب الى الصلاة
نعم انقطعت طيلة فترة الحرب منقطعة عن الغناء في لبنان، وفقدت
بتأثير القصف الصاروخي ابنتها "ليال"، الا انها ما لبثت ان كانت جزءا من
مشروع عودة الروح الى لبنان، فغنت في بين بقايا مكان شهد اعنف جولات الموت الدموية
في الحرب " ساحة الشهداء"، واعلنت مع اطلالاتها بين اعمدة بعلبك، عودة المهرجان العربي الفني الأكبر
"مهرجان بعلبك " مثلما كانت، حاضرة
في مهرجان عتيد آخر هو "بيت الدين ".
وكانت "رسالة سلام ومحبة" حين خصتها الأمم
المتحدة العام 1999 لحضور احتفالات الذكرى الخمسين لتوقيع المعاهدات الدولية الإنسانية ، وفي ذلك الحفل ادهشت العالم حين غنت
" الأرض لكم " في اشارة عميقة على شراكة انسانية لابد منها كي تستقيم الحياة .
صوت فيروز يعطي أملاً، ويضفي على الحياة في اكفرارها
دافعا للعيش. غناء فيروز، نوع من الإيمان هو أقرب إلى الصلاة منه إلى الغناء بشكله
العادي. فيه يرى السامع ذاته، ويقترب أكثر فأكثر من روحه مانحاً اياها شحنة من الصدق والأمل.
في صوت
فيروز رنات من الأسى وبريق لامع يؤشر الى حدة الصوت ورّقته في آن واحد. هذا الخليط
الساحر، يعلق في الروح ولا يبرحها، يبقى فيها
أبداً، يسكن في الثنايا، ناثراً عطره.
*القسم الثاني من دراسة كنت كتبتها بتكليف من رئيسة تحرير مجلة
"تايكي" الاردنية القاصة بسمة النسور.
|