علي عبد الأمير احتاج الاخوان صالح
وداود الكويتي، نحو ثلاثة عقود بعد رحيلهما الجسدي عن الحياة، كي يشعروا بأن ارثا روحيا
عميقا كالذي شكلته انغامهم، وجد من يسهر عليه، لا كعمل ارشيفي ينتمي الى التوثيق،
بل كتواصل مع فكرته كونه عملا متواصل في التجديد والابتكار النغمي. داود (عود) وصالح الكويتي (كمان) رفقة فرقة موسيقية عراقية
مثلما يصح هذا كمدخل مختلف
للحديث عن اثر عميق كالذي تعنيه مدرسة "الاخوين الكويتي" في الموسيقى
العراقية المعاصر، يصح ايضا القول ان ما كتب عن تأثير تلك المدرسة، تاريخيا واكاديميا،
كافيا بالنسبة لي كي أبحث عن مدخل غير الذي اندرجت فيها عشرات المقالات والبحوث
والمراجعات. هنا سأمضي الى خيار مختلف، الا وهو تتبع رسالة انغام الاخوين المبدعين
الاصيلين، كونها مرانا متواصلا على التجديد والابتكار في النغم، وكيف انها وصلت
الى ما يجعلها مؤثرة وحاضرة في الارواح والاسماع، حتى ونحن على اعتاب 75 من زمن
انطلاقتها الاول، بل واكثر من هذا، كيف تكون مؤثرة في اجيال جديدة؟ لا تعرف لغة
الاغنيات ( البغدادية الدارجة)، ولا ايقاع زمنها الاصلي ولا مكانه ولا بيئته
الاجتماعية، ولكنها تجد فيها ما يحرك الوجدان، وهو سر الاصالة الخالد والذي يصبو
اليه كل عمل روحي وابداعي.
نعم "إنه لأمر مرير لفنان مثل داود الكويتي، أن ينزل فجأة من قمة النجومية
الى العدم، عندما اضطر وشقيقه صالح لمغادرة بلاده التي اهوى وانشد، إلى إسرائيل في
عام 1951 جنبا إلى جنب نحو 120 الفا من اليهود العراقيين". نعم "هكذا تحول
من كان احد عمالقة الموسيقى في العراق ومحط تكريم ارفع مستوى في الدولة (الديوان الملكي)
وحتى اوسع المديات الثقافية و الشعبية ( كان الثنائي حاضرا على لسان كل من يهوى
الغناء الجميل من شمال العراق الى جنوبه)، الى بائع في احد محال البقالة"، تاركا خلفه وهو وشقيقه صالح، كل ذلك التراث الثقافي والمادي وأرضهما وذكرياتهما،
ليصبحا محرومين من كل شيء.
وحتى وفاته في العام 1976، كان داود الكويتي منشغلا
ما بين التخفيف من اعباء عمله اليومي الشاق والاحساس من انعدام اي اعتراف بإنجازه
وشقيقه الموسيقي، حد أنه كان يحذر أولاده صراحة من أن يكونوا موسيقيين. بعد بضعة أشهر
من وفاة داود، ولد حفيده (من ابنته، كارميلا) سينهي خيبة الموسيقي الراحل، ويستعيد
بعضا من بريق تراث العائلة الموسيقي. انه دودو تاسا، الذي بات واحدا من أكبر الأسماء في الموسيقى الإسرائيلية
اليوم، وتحديدا في انغام الروك. وجاءت الإسطوانة الثامنة له: "دودو تاسا والاخوان الكويتي"،
لتضم نحو عشرة اعمال غنائية من ارثهما الخالد والذي صار مرجعا لضبط الملمح العراقي
في أي لحن واغنية. وسعى الحفيد دودو الى
جعل الانغام الاصلية مناسبة لأجواء "الألفية" الجديدة، عبر تكييف نبرات
الصوت الغنائي الذي تبدو عليه العربية (العراقية الدارجة)، غريبة بعض الشيء لاسيما
في الثقل التعبيري الذي تعنيه مساحة الحزن الكثيفة في النصوص الاصلية، ناهيك عن
امر بدا غريبا على تلك الاصول، الا وهو استخدام الغيتار الكهربائي والطبول
المرافقة عادة لفرق موسيقى الروك، رغم ان ما فعله، تاسا، كان انجزه ببراعة، فناننا
المميز، الهام المدفعي، في تجربته على تقديم الموروث العراقي وفق اسلوب الروك اولا
والجاز لاحقا.
"إيراك آند رول"
هذا البحث عن جذوره الموسيقية، صار قصة مذهلة عن
"الاخوين الكويتي"، واسست مع دمج موسيقى الروك بالنغم العراقي والشرقي
عموما، تجربة ثقافية لا تخلو من مفارقة كالذي يحيله عنوانها "Iraq'n'roll"، الذي صار عوضا عن
Rock’n’roll، مثلما صار عنوانا مكثف الدلالات لفيلم
وثائقي يحكي الجذور العراقية لمغني الروك صاحب الطاقة الموسيقية الذي وجد ان من الوفاء
والامانة احياء فصل هام في تاريخ الموسيقى العراقية والعربية الشعبية، مثلّه ارث "الاخوين
الكويتي".
دودو تاسا الذي لم يلتق جده قط، يقول متعقبا
صورة من سيصبح عنده، دافعا اساسيا للبحث عن الهوية الثقافية الشرقية: "عندما ولدت،
كانت أمي حزينة جدا لأن والدها توفي عندما كانت حاملا بي، وظلت تقاطع الموسيقى
لنحو ست الى سبع سنوات. ولكنها عاودت ذلك حينما تكون لوحدها في المنزل، فتبكي
استذكارا لحياتها مع والدها والحانه، ولتختلط الموسيقى بكثير من الدموع، حتى ان الموسيقى
ظلت لفترة طويلة عندي مقترنة ببكاء امي". |