علي عبد الأمير
في الجزء
الرابع والاخير من هذا البحث ... نتابع الفرادة اللحنية التي حملت توقيع صانعها
فاروق هلال.
البحث عن رقة في
صوت هادر!
ولنتوقف عن لحنه
للمطرب ياس خضير في اغنية "كالولي راح ومشى" التي صاغها شعرا، علي هليل.
وفي هذه الاغنية علينا ان نتوقف عند اعتبارين: اولهما الحضور الطاغي للنص الشعري
في "الاغنية السبعينية"، وهو ما يعني ان الجانب الموسيقي الابداعي، وهو
ما يعنيه اللحن، والاداء الصوتي الغنائي، يأتي في الدرجة الثانية، وهو اعتبار
سنتصدى لبحثه معمقا اثناء دراسة تلك الظاهرة التي تمثلها سبعينيات القرن الماضي في
العراق، فكريا واجتماعيا وسياسيا، فيما الاعتبار الثاني كان يتعلق بطبيعة صوت
مؤديها، اي المطرب ياس خضير، لجهة طبيعة الاداء الذي حافظ بقوة على طبيعته الفطرية،
منذ اغنية "الهدل"، حتى دخل مستوى فنيا جديدا عبر عملين لحنيين
مركبين صاغهما الراحل طالب القره غولي، وهما "روحي" و"ليل
البنفسج"، وجاء لحن فاروق هلال، لينقل صاحب اغنية "الريل وحمد" من
مستوى الاداء الفطري الذي كان يعوزه التهذيب المنغم، الى مستوى الاداء الغنائي
المتحكم بالطبقات العالية للصوت ونقلها نحو مستوى التعبير، وهو ما كان يفيض في لحن
هلال، رقة غريبة على صوت تميز دائما بالأداء الانفعالي العالي، فضلا عن الافراط في
استخدام العرب (ضم العين وفتح الراء)، حد المبالغة.
في لحن "كالولي
راح ومشى"، نجد صوت خضر، العريض والخبير في ترجمة المشاعر المحبطة والكئيبة، واذا
به رقيقا على غير العادة، هذّب فيه، فاروق هلال، تلك الخشونة التي تقارب الفضاضة واكسبه
نعومة كانت عادة تفارقه لصالح مداه العريض المتخصص بالأداء المتأسي الشعبي. وتلك
نقلة لافتة لا ينجزها الا ملحن صاحب رؤية وقدرة على نقل اصحاب المسارات الغنائية
من المطربين المكرسين الى منطقته التعبيرية الخاصة، وليس العكس.
النغم الفريد لا
الشائع المتداول
ومثل هذه النقلة النغمية
التي تنفصل عن السياق اللحني الشائع المتهالك حتى لو كان يحقق حضورا شعبيا، عاودها
الملحن فاروق هلال مع المطرب المثقف الصوت والاداء، حسين نعمة، فما ان بدا صاحب اغنية
" يا نجمة" وكأنه يشعر بالحنين الى الاثر الريفي في مساره الغنائي حتى
قدم اليه ملحننا، اغنية "خطّار"، ومعها اخذه بعيدا الى الجانب المديني
في صوته، في وقت راح يفارق ذلك الجانب، عبر تمارين على اداء اغنيات باتت ثابتة في
موروث الغناء الريفي العراقي.
واظن ان تلك
الخصيصة البارزة، واعني بها اكتشاف جوانب غير مطروقة في حناجر مطربين مكرّسين،
والوصول الى مديات في الاداء لم يعرفونها من قبل، وهي خصيصة برع فيها فناننا
الكبير، تستدعي قبل كل شيء بحثا دائبا، ومقاربة للسؤال الابرز في اي عمل فني
وابداعي: ما الذي يعنيه ان نعيد ما هو متداول؟ ما الذي يعنيه ان نطرق السبل السائدة
في التعبير عن المشاعر؟ وهنا كان فاروق هلال منتميا الى روح الفن الخلّاقة، بوصفها
البحث عن غير المتداول والشائع في مسار المشاعر الانسانية والتعبير عنها، وليس
تقديم العادي والمستهلك والمتداول حتى وان كان مطلوبا على المستوى الشعبي.
ضبط التدفقات في صوت جهير
واذا هناك من درس
عملي لانهماك الملحن فاروق هلال على ما وصف اعلاه: اكتشاف جوانب غير مطروقة في
حناجر مطربين مكرسين، فهو لن يكون مجسدا مثلما جسّده لحن اغنية "علمني عليك"،
الذي كان بالأصل يبحث عن حنجرة عراقية، لكنه صار من حصة الكويتي عبد الله رويشد. هنا
تمكن البناء النغمي عند هلال من الوصول الى مديات في التعبير لم يعرفها النغم العراقي
الاقرب الى "الخليجي"، فلا سياق تلفيقي من نوع "المعاصرة مع الحفاظ
على الموروث"، بل عمل متماسك رغم ذهابه الى اقصى المغامرة التجديدية، عبر لحن
لا عرفت مثيله الانغام العراقية ولا الخليجية، فضلا عن انجاز تربوي وذوقي، فلحن
هلال تمكن من ضبط التدفقات الصوتية في صوت
رويشد وحنجرته الهادرة، غير المهذبة احيانا لفرط طلاقتها، لا بل ان ذلك اللحن
الفريد، علّم المطرب الكويتي اناقة الاداء، التي ظل حريصا عليها لاحقا، كميزة
تعلمها من ملحننا، ويبدو ان المطرب- الملحن المجيد الاخر، البحريني خالد الشيخ،
اخذ هذا الدرس جيدا، فكانت الحانه لرويشد تمارين على الرقة والاناقة في صوت غالبا
ما تذهب مدياته بعيدا عنها.
هنا يمكن القول
وبثقة ان مسارين لتجربة رويشد: الاول ما قبل "علمني عليك"، والثاني
الناضج الانيق ما بعد هدية لا تقدر بثمن، قدمها اليه صاحب الالحان القليلة عددا،
لكنها العميقة في تأثيرها النغمي، كصنعة موسيقية، والوجداني، كتأثير انساني جميل.
*الجزء الرابع والاخير من بحث فني - اجتماعي في السيرة الفنية والتربوية للموسيقار فاروق هلال. |