فاروق هلال: الموسيقار والتربوي والانسان (2)

تاريخ النشر       01/11/2015 06:00 AM


علي عبد الأمير


أي إلتزام في الغناء والموسيقى؟

كنت في مدوناتي، كناقد للنغم العراقي والعربي، اتصدى الى "أغنية سياسية" يحرسها ولاء آيديولوجي حزبي غالبا ما يكون حماسيا ومرحليا وعابرا وقابلا للتغير، مثلما انوه بفرح الى نقيضها: أغنية تنتمي الى العميق في فكرة الوطن وإنسانه. وتلك الفكرة باتجاهيها السلبي والايجابي، كادت تودي بي، لكنني لم أتردد عن قولها، ولاحقا كتابتها في مقالة نشرتها في صحيفة رسمية ببغداد، وهي ملاحظات نقدية على إتجاهات كانت ميزت "مهرجان أم المعارك الأول للأغنية في العام 1992" وندوة أعقبت المهرجان، ولولا أريحية مدير الندوة الموسيقار فاروق هلال لكنت في خبر كان، منذ ذلك اليوم البغدادي البارد.

وتحت عنوان "على هامش مهرجان  أم المعارك  للأغنية.. أي فن موسيقي وأي التزام؟"، كتبت مقالة جاء فيها: "التظاهرة الموسيقية – الغنائية، أوجدت في ظرفيتها كحدث تضامني ساخن، مناسبة للحديث مجددا في هذا الموضوع، فالمداخلات تعرضت لتعريفات مرتبكة وسريعة، واصفة العنوان" الالتزام" بمواكبة الأحداث المصيرية أحيانا، والتعبير عن عمق التغيير الاجتماعي تارة أخرى، لا جديد في استذكار أصحاب المداخلات لمتاعب "الفنان الملتزم" في البلدان العربية، وما يعانيه خاصة من الأجهزة الثقافية في بلده، الذي من المفترض أن يكون عونا له، فهي "تستخدمه" حسب ضروراته العاجلة، وتهمله طوال الوقت المحصور بين "استنفار" ثقافي وآخر! فيما أشار آخرون الى ضرورة اعتماد "الفنان الملتزم" على مجهوداته الشخصية في حفر مساره الفني، وبحثه في الوقت ذاته عن وسيلة ما لإدامة الاتصال مع الجمهور المتلقي. كلام كهذا يبحث عن وقائع ممكنة كي يصبح معقولا، ولكنه استغرق في الهوامش تاركا الأساسيات، كيف؟

لم يهتم المتحدثون (موسيقيون ومغنون) ببحث الجانب "الفني" في الغناء الذي يريدون له  أن يكون "غناء مختلفا" غير السائد والشائع، كذلك لم يجهد الحضور أصحاب الشأن أنفسهم في إقرار صيغة عملية ممكنة لإبقاء الكلام نافذة الى فعل قادم، أي الاتفاق على صيغة فريق عمل من الفنانين الحاضرين، والقيام من ثم بجولة في العديد من البلدان العربية أو الاجنبية إن امكن، وتقديم احتفالية موسيقية غنائية، تذكّر بقيم فنية شبه غائبة،  يمكن من خلالها عرض الموسيقى والغناء خارج الإستوديوهات وأروقة التداول التقليدية والمعروفة.                                                     

 نصير شمة، الموسيقي و صاحب المعزوفات العديدة، والذي سبق له أن طاف بصحبة آلة العود على العديد من الدول مذكّرا بأهمية الموسيقي- الفنان في التعريف بقضايا الإنسان، هو من قدم فكرة فريق العمل- الموسيقي المتجول، كذلك حاول الفنان وضاح زقطان من فلسطين، وصاحب فريق "رؤى" للغناء الجماعي التأكيد على الفكرة ذاتها.

محمد درهم، صاحب فرقة "جيل جلاله" المغربية، التي قدمت عروضها الغنائية ضمن المهرجان التضامني مع العراق، وفنيا سجلت تلك العروض هبوطا واضحا بالقياس للمستوى الذي تعرفت شخصيا اليه ومن خلال متابعة متعددة المراحل لأعمال الفرقة، صاحب الفرقة تحدث بدوره عن موضوعة "الالتزام" في الأغنية والموسيقى، منوها بان الموضوع لا يحتاج الى تعريفات وتحديدات، فهو يرى أن "الفن كموضوعة تعبيرية هي التزام بحد ذاته"، ونوه الى جهد الصوفيين في التلاوة الإيقاعية لأشعارهم، معتبرا ذلك "بداية التزام واضح في الفن"! وعن "النشيد الوطني" قال كلمات في دوره المؤثر كنشاط تعبوي: "يظل الغناء دفاعا عن قضية وطنية واجبا، لأنه يعني بالضرورة دفاعا عن قضية إنسانية ".

بدوره قال كاتب السطور، أن "جل أسباب ضعف الاتصال عند التجارب الموسيقية الملتزمة وفشل أغلبها، يعود الى ضعف البناء الفني في عملها الموسيقي، واعتمادها بالأساس على النوايا الطيبة واحتفالها المبالغ به بالموضوعة حد الوصول بها الى المباشرة الفجة، والتي لاحقا – وكم حصل هذا – تسيء الى المعاني التي تحملها الأحداث الساخنة والتي تفجرت عنها. علينا بفن موسيقي وغناء جيد البناء، ويخاطب المتلقي اعتمادا على كونه موسيقي أولا، وقادر على تغيير الذائقة السائدة عند جمهرة المتلقين وتدعيم الجوانب الإنسانية وعاطفتها السامية، بكل هذا وحده نستطيع ان نقول إننا "إلتزمنا" بحق، وقدمنا دورا مؤثرا عبر موسيقانا وأغنياتنا".

المفاجأة الثقيلة التي حملتها كلماتي لضيوف "مهرجان أم المعارك" من موسيقيين ومغنين عرب، إكتملت حين حملت بقوة على اعضاء فريق غنائي تونسي، كانوا يدعون الى أن "تواصل بغداد صمودها وحربها المناهضة للأمبريالية"، فقلت لهم: "من قال لكم ان العراقيين يريدون استمرار الحرب؟ من قال لكم ان العراقي العادي لا ينهض الى صباحه وأيامه إلا على وقع الأناشيد الحماسية.. انه يريد أن يستعيد حياته الإنسانية الطبيعية، ومن ملامح حياته تلك: أغنيات فيروز في الصباح، انها تجعله مقبلا على حياته وتحضّ على قيم الخير فيها"، وهنا تدخل الفنان فاروق هلال ولاحقا الفنان نصير شمّة كي "يخففا" من نبرة في حديثي، بدت إتجاها معارضا لحماسة أرادها "مهرجان أم المعارك"، و"تضامن" من فنانين عرب كنت أعتبرهم قد وجدوا في حروب العراق متنفسا لخيباتهم الفكرية والشخصية في بلدانهم، عدا مشاعر تقدير شخصي كان يستحقها بقوة عمل جميل بعنوان هو "العراق" للفلسطيني وضّاح زقطان.

الإشارة الى المهرجان إياه، و"الالتزام" في الغناء والموسيقى، تأتي هنا تدوينا لحقيقة التكوين الفكري والانساني لفناننا الذي سمح لي بتمرير موقف نقدي، كان اقل من ربعه، جديرا بجر صاحبه الى التهلكة، في حال وجود "مسؤول" ثقافي ليس من طينة صاحب اللحن الجميل، والموقف الفكري الوطني، بلا استعراضات فارغة، ولولا نهج انساني كان فاروق هلال تمثيلا صادقا له.

 

نحو غناء يحترم ذائقة المتلقي

وكان فاروق هلال، إشتغل في اوائل تسعينيات القرن الماضي(1)، وبدأب شخصي، على مشروع فني خالص، دونما ضجة وبلا إدعاءات، فهو يقدِّم مشروعه الغنائي تحت تسمية مقترحة هي "تفصيح الأغنية"، أي تقديم أغنيات جديدة إعتماداً على نَص شعري مكتوب بالفصحى ومعالجة موسيقية تعتمد لحنية تعبيرية تظهر في المقاطع الشعرية تعبيريتها المُجسدة في حكاية بسيطة مصاغة شعراً.

الحكاية كلها، أي حكاية هذا المشروع الموسيقي نقلها الفنان فاروق هلال من إطار الأحاديث الشخصية المُتبادلة بينه وبين نخبة من الأصدقاء الذين يلتقيهم، الى مستوى الإعلان الجماهيري، حيث تحدث عن هذا المشروع وعن جملة تفصيلات تحيط به، وتتناول واقع الأغنية والموسيقى محلياً وعربياً، عبر لقاء تم مع الجمهور في حدائق نادي الإعلام ضمن الموسم الثقافي لنقابة الصحفيين.

تحدث فاروق هلال عن معنى التأسيس في أي حركة موسيقية وغنائية، دونما وضع مقاييس وثوابت لهذا التأسيس ولكنه أوجز ذلك في النتاج الموسيقي والغنائي القادر على الإتيان بالجديد ولكنه الراسخ الذي يعتمد محاكاة علمية للموروث.

التأسيس الغنائي والموسيقي، أشار له الفنان كما في تجربة مؤثرة وغنية كالتي تعنيها تجربة الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي إستفاد حقاً من تراث الموسيقى والغناء وحتى بأشكاله الشعبية البسيطة ليضعه في إختبارات قائمة على علمية الموسيقى الحديثة، وليخرج بنتائج أصبحت مثار حديث على مستوى أجيال متلاحقة.

التأسيس "بمعنى أنك تأخذ أشياء صحيحة من نتاجات سبقك إليها فنانون روّاد وتبدأ أنت من النقطة التي إنتهوا عندها، لتكمل تلك الإضاءات الجمالية التي تميّزت بها أعمالهم، ولتشتغل عليها بروح معاصرة حقيقية، تضع مبدأ الإرتفاع بذائقة المتلقي وإحترام تطلعها الى ما هو إنساني وجمالي، في الدرجة الأساس".

فاروق هلال: خصوبة العطاء الموسيقي وتعدد مستوياته

ولتعثُّر محاولات كهذه في واقعنا الموسيقي والغنائي بالتحديد، جعل هذا من الفنان فاروق هلال والكلام دائماً له – حسبما أورده في محاضرته آنفة الذكر – يبحث عن محاولة للتأسيس وجعل الحلم بوجود موسيقى وغناء محلي يقترب من الواقع وإيقاعه، ويؤكد على نواحي الغِنى الروحي الشعبي فيه، جعل ذلك الحلم ممكناً، هو لا يرى نحو ذلك وصفة جاهزة يقدمها لمن يطلب أن يمضي في هذا الإتجاه، بل هو في صدد البحث عن جملة نتاجات واضحة الملامح تؤدي الى ذلك.

ومن هذه النتاجات، ما وصل اليه في إختيار مجموعة "السبعة":  شعراء، موسيقيون، مغنون بدأوا مرحلة جديدة. إختيار كلام مغاير لما هو سائد فوقع الإختيار على قصائد مكتوبة كي تُغنّى، موضوعاتها بسيطة لا شأن لها بإظهار المهارات الشعرية وإدعاءات أخرى، بل هدفها الأساس، تصويرية محببة لمشاعر وعواطف إنسانية تتجسد في مواقف وحكايات موجزة، ثم إعتماد ألحان تواكب هذه اللمسات في النصوص الشعرية، وتُغنّى بأصوات مثقفة تحترم التوجه هذا وتعرف أنها تخوض في طريق صعب وهذا متأت من إتجاهين:

 الأول في كون غناء القصيدة هو أصعب ألوان الغناء لما يحتاج إليه من عناية في الألفاظ وقوة في إظهارها بعيداً عن سهولة الكلام الدارج والسقوط في ميوعة ألوانه وسذاجتها أحياناً.

والإتجاه الثاني هو صعوبة إختيار فني كهذا، بسبب كونه سيتعارض أول الأمر مع إتجاه أصبح شبه ثابت، إتجاه السهولة والسطحية في الغناء، وما يدرّه هذا الإتجاه من منافع واضحة على السائرين فيه، فعلى المغني الذي يخوض فيه أن يتوقع رفض التعامل معه في "بورصات" الغناء التجاري، تلك التجمعات التي تجد من النوادي الليلية والفنادق والمطاعم، بؤر إنتشار مثالية والتي تحاول السيطرة على النتاج الغنائي وضمن ما يجعلها تعيش وقتها النموذجي.

 إتجاهات كهذه إستمعنا الى نماذج منها ... بألحان موقعة من فاروق هلال، وبصوت الشاب جمعة العربي، وأغنية "الهاتف" مثال على لقاء كهذا، فيها إحتفال حميم بنوع من المشاعر الرقيقة وصياغة فنية طيبة جاءت من ناحية الموسيقى والصوت الغنائي، أيضاً هناك مساهمات من سعدون جابر وجواد محسن في هذا الإتجاه، وتظل لقصيدة "سفر أيوب" للسيّاب وبلحن طالب القرغولي مكانة مميزة على الرغم من كل الذي قيل في جودة الأداء الصوتي أو أسباب إختيار قالب لحني دون آخر.

كاتب هذه السطور ناقش الفنان فاروق هلال، في جملة ملاحظات أثارتها المحاضرة القيِّمة ويعيد هنا ما ثبّته من سؤال يتعلق بكيفية التعامل مع النموذج المُقترح "الغناء بكلام فصيح" أهو الوحيد الممكن في باب التجديد وتأسيس مرحلة غنائية عراقية ناضجة؟

الفنان "فاروق هلال" قال في باب الرد، أنه لم يعتبر الغناء بالفصحى كونه اللون الوحيد الذي يستحق الإقتداء به والسير على خطاه، بل هو خطوة على طريق طويل في الموسيقى والأغنيات التي تضع هدفها الفني ضمن إحترام ذائقة المتلقي والرُقي بمستوياتها ومن الممكن أن تساهم في الألوان الشعبية الأخرى.

وفيما كنت امني نفسي بالقول، انه مشروع طَموح نحن بإنتظار نتائجه الأخرى وردود أفعال المتلقي عليها وحجم تداولها ... مشروع كهذا نثمن النوايا الرفيعة التي تقف خلفه، كنت ايضا اراه سيضيع مثل الكثير من المشاريع الثقافية التكوينية، لهذا ختمت تعليقي بالقول، "لا نريد له أن يظل مجرد نوايا بل واقعاً مؤثراً وفعالاً يساهم في إغناء موسيقانا وأغنياتنا حقاً".

(1) علي عبد الامير، صحيفة "القادسية" 10-11-1992



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM