ناظم الغزالي: المقام العراقي بوصفه غناء رقيقا

تاريخ النشر       14/10/2015 06:00 AM


علي عبد الأمير

في اوائل خمسينيات القرن الماضي وقف ناظم الغزالي خلف مايكروفون اذاعة بغداد ليؤدي على الهواء مباشرة أول مقاماته: "يا صاح جف الدمع هب لي دمع جـاري" واغنية "على جسر المسيب"، وما ان انتهى من غنائه حتى تلقى كلمات الإطـراء والإعجاب والتشجيع من قبل جمهور العاملين في الاذاعة فضلا عن رائد المقام العراقي المطرب محمد القبانجـي، بعدها واصل الغزالي حفلاته الاسبوعية وبمستوى متصاعد من النجاح، فذاع صيته وعرف اسمه، وعلا نجمه في مشهد الغناء العراقي المكتظ حينذاك بمواهب حقيقية، مثلما عرف مؤديا لفنون المقام العراقي كـ"قاريء"(1) بحساسية مختلفة.


وتلك " الحساسية " كانت ظاهرة في اداء الغزالي للمقامات البسيطة ودون أن يقحم نفسه بأداء المقامات الصعبة التي تتطلب مساحة صوتية لم يكن يتوافر عليها، فكان يغني مقامات "الأوج"، "الصبا" و"البهيرزاوي" بنكهة عذبة وسليمة، وحين بدا ان حساسيته الموسيقية والغنائية بدت أوسع من "حدود" المقامات وأصولها المحكمة، إتجه إلى الأغنية فأبدع فيها كما أبدع بحسن اختياره لعدد من القصائد، فغنى بحنجرة صافية دافئة، عبرقدرة فائقة ورشيقة في اظهارالقيم الجمالية في القوالب اللحنية فضلا عن روحية مرهفة في الاداء، فلطالما ظل الغناء العراقي مباريات حامية في المهارات والقوالب ولكن ليس بالضرورة، رهافة ورقّة وتحديدا في اداء المقام.

يذكر الباحث كمال لطيف سالم(2)، أن "البعض يميل إلى أن ناظم الغزالي لم يكن يمتلك القدرة على أداء المقامات الصعبة كالبيات والإبراهيمي لأن طبقة صوته تتلاءم مع المقامات البسيطة  لذا اتجه إلى الأغنية"، ومثل هذا الرأي يوزنه خبير"المقام العراقي" والباحث هاشم الرجب: "ما يجمعني بناظم الغزالي كوننا من أسرة المقام العراقي، وما أذكره أنه كان مولعاً بمدرسة أستاذه محمد القبانجي، لذا نجده قد ابتعد في حينه عن مدرسة سلمان موشي الذي كان يشرف على تعليم عدد من قرّاء المقام... ومع كل ذلك فعلاقة ناظم الغزالي بالمقام علاقة لا تتعدى كونه يغني المقامات البسيطة لعدم وجود قرار في صوته، فصوته جواب وجواب الجواب لذلك نراه لا يجيد المقامات ذات التحارير القرارية التي تحتاج إلى قرار مثل الرست والبيات، فكان اعتماده منصبا على البستات،  فلجأ إليها أكثر من المقام. فنفض الغبار عن الكثير من الأغاني القديمة وكلف بعض المعنيين بالموسيقى والألحان بصياغتها وإضفاء روح المعاصرة عليها وبخاصة جميل بشير".

واذا كان الغزالي قد خبر فنون "المقام العراقي" واجادها فان ذلك عائد الى اعتبارين: الاول وكان قائما على تأثره الكبير بشخصية الرائد محمد القبانجي، فكرا فنيا وسلوكا، والثاني في استلهامه وبعمق لجزيئات تلك الفنون اللحنية والادائية و"توظيفها"في بناء اغنياته وصوغها، حتى بدا وكأنه اضفى روحا شابة على اشكال لحنية "عتيقة" ولكن دون التنكر للبناء الفني العميق في تلك الاشكال.

من هنا يمكن الدخول الى الأثرالكبير الذي تركه الغزالي على ملامح الأغنية العراقية التي أخرجها من قالبها التقليدي، فلم يكن ولعه بالأغنية بحدود الأداء، إنما كان بصدد تنفيذ مشاريع كانت تدور في ذهنه حول "تطوير" الأغنية لحناً وأداءً وقراءة ثقافية واجتماعية، ونجح فيما أراد وأدى الالحان التي قرّبت الأغنية العراقية من الذوق والأسماع العربية التي كانت تجهل الكثير عن أطر الغناء العراقي، وبدا قريبا من تنفيذ "مشروعه" حول تجديد وتطوير معظم "البستات" والأغاني التي كانت ملازمة للمقام العراقي لولا الموت الذي عالجه وهو في قمة مجده وعطائه.

سيرة التعب والإجتهاد

ولد ناظم أحمد الغزالي في بغداد في العام 1921 بمحلة "الحيدرخانة"، لأم ضريرة اسمها جهادية توفيت في عامه الرابع، وفي السابعة من عمره توفي والده الذي كان يعمل خياطاً، فرعاه عمه محمد وكان يصحبه إلى المجالس الدينية و"الجالغيات" (الفرق الموسيقية العراقية التقليدية) التي كانت تقام في المقاهي وبيوت الأغنياء المشهورين، فنضج عنده ميل إلى هذه الطقوس التي يتداخل فيها الموسيقي بالاجتماعي، وفي العاشرة من عمره وبالتحديد العام 1931 دخل ناظم الغزالي "المدرسة المأمونية الابتدائية"، وعرف بصوته الجميل وبحسن تقليده لرائد المقام العراقي  محمد القبانجي، وبدأ يقارب الغناء بحسب ألحان كان صاغ بعضها معلم النشيد في المدرسة وهو رجاء الله زغبي، حتى دخوله "معهد الفنون الجميلة" الذي تركه مضطراً بعد سنتين ليعمل موظفاً في البريد.

وعن هذه الفترة يقول صديقه الشاعر حسن نعمة العبيدي: "عايشت ناظم الغزالي موظفاً بدائرة البريد وشاءت الظروف أن يكون عملي بجوار عمله وكنت أراه دائماً وسيم الطلعة ممتلئاً بالحيوية والنشاط، ومع عمله الروتيني إلا أنه لم ينقطع عن الغناء، فقد عرفته مطربا متميزاً بصوته الجميل أيام كان البث الإذاعي مباشراً وعلى الهواء، مما جعل أكثر أغانيه تضيع لأنها لم تسجل، وقد شاركته ببرنامج الترفيه عن الجيش العراقي في العام 1947، وقد كلفني أن أكتب له نصاً غنائياً فتملكني شعور من البهجة والسرور، ذلك انني كنت أعرف مدى مكانته في سمو الاختيار وحسه الأدبي الشفاف إذ لا يقبل الأبيات إلا بعد مطالعتها بجدية الممارس، وكم فرحت عندما وافق على نصي مع تعديل بسيط قام به".


ومع ان ناظم الغزالي ترك دراسته في "معهد الفنون الجميلة "وانشغل بالعمل الوظيفي لكنه بقي يفكر في العودة إلى دراسة الموسيقى، وقد تم له ذلك في العام 1947، وحين عاد ناظم الغزالي إلى معهد الفنون الجميلة لاكمال دراسته، وضمه "عميد" المسرح العراقي حقي الشبلي إلى "فرقة الزبانية للتمثيل ".
وكان لدراسته التمثيل في معهد الفنون الجميلة الاثر البالغ في تحصيله معرفة باللغة كبناء صوتي وعروضي واداء سليم في نطق المفردة الشعرية وتوضيحها وتجنب ادغامها. كما زوّده حضوره لما يزل صبيا ندوات المولد النبوي الشريف بما فيها من اشكال المديح الموقع، بقوة شخصية لتحسس طرق الاداء والانغام والنصوص الشعرية.

وعندما شكلت "فرقة الموشحات" تحت إشراف الفنان السوري علي الدرويش، اصبح عضوا بارزا فيها فكان يقدم وصلات غنائية منفردة لنحو ربع ساعة، وهو ما لم يكن يحظى به غيره من اعضاء الفرقة التي كانت واحدة من علامات الغناء العراقي في عقدي الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. وما لبث الغزالي ان التقى وديع خونده (سمير بغدادي) الذي لحن له أول أغنية" وين الكاه (القاه)الراح مني" ولكنها لم تقابل بما تستحق من النجاح، فعاد إلى المقام حتى التقى المرحوم جميل بشير الذي لحن له العام 1955 أغنية "فوك النخل فوك" و "وشبان مني ذنب"، فطارت شهرة الغزالي  الى امكنة عراقية لم يكن يصلها عادة مطربو المدينة، كما في الارياف والمدن الاقرب الى البادية.


 هوامش

(1): يستخدم مصطلح "قارىء" لمطربي المقام العراقي ومؤديه.

(2) مجلة "فنون" العراقية العدد الثاني والستون 1979




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM