علي عبد الأمير انفتاح على النغم العربي ثمة من يرى، وهو على حق في ذلك، ان الراحل عباس جميل مثّل في نتاجه الغني والمتعدد في آن نهضة حقيقية في النغم العراقي المعاصر، حد ان نتاجه تلوّن بأصوات عربية، فغنت له، سميرة توفيق، نهاوند، نزهت يونس، ليلى عبد العزيز وغيرهن، لما كانت الحانه تتميز بانفتاح حي على الموسيقى العربية، لا سيما انه المتأثر بألحان الموسيقار زكريا احمد، فضلا عن اتجاه اللحنية المصرية بتوفير نسيج موسيقي متين للأغاني الشعبية، وهو ما فعلّه مع اغنيات لمطرب الريف الراحل داخل حسن مثل "يا طبيب اصواب دلالي كلف"، عبر حساسية نادرة تميز ما بين بيئات غنائية عدة، فمن الالحان المتأثرة بالموسيقى المصرية يوم كانت محرضة على كل ما هو عميق وجميل، الى تحديث للأغنية العراقية الشعبية وانماطها اللحنية والسائدة، وصولا الى ما تم وصفه سابقا "عمل عباس جميل على تمدين الغناء الريفي"، فهو حين لحّن اغنية "ماني صحت يمه احا جا وين اهلنا" ، قال إن هذه الاغنية لا يمكن إن تؤديها غير المطربة وحيدة خليل لأنها من اهل الجنوب وهي التي تعبر اكثر من غيرها من المطربات، والامر ذاته تكرر مع اغنيتيها "على بالي ابد ما جان فركاك"، و"عين بعين على الشاطئ تلاكينه". ومثل هذا الحساسية في مزج الريفي بعطر الحداثة المدينية كانت في الحانه للمطربين داخل حسن وحضيري ابو عزيز، ولكن ضمن مساحة في حرية الاداء متروكة لإصحاب الاصوات الغنائية: "إنني لا أقيد المطرب أو المؤدي بصرامة، فألحاني في الحقيقة فضاءات مفتوحة رحبة، للمؤدي أن يتجول فيها شرط أن يحافظ على هيكلها الأساسي".
الملحن المطرب متعدد الاساليب عباس جميل في جلسة غنائية يظهر فيها جانب من شخص الناقد عادل الهاشمي ويعيد نقاد وباحثون الفضل في استيعاب جميل للنغم الريفي والتلحين على منواله، إلى "تتلمذه على يد مطرب الريف عبدالأمير الطويرجاوي، لكن بروح تعبيرية رشيقة وراقية، مثل اغنيته لوحيدة خليل، "ماني صحت"، التي قامت فرقة إيطالية بإعادة توزيعها موسيقيًا حسب السلم الغربي، ولقيت نجاحا وقبولا واسعا، اعتبره فناننا عائدا الى بساطتها وعفويتها وما تحمله من شحنة عالية من العاطفة والحزن والأسى الشفاف". وبحسب استاذ الموسيقى والملحن علي عبدالله، فان "عباس جميل أول ملحن يتعامل مع المقام العراقي بطريقة أكاديمية وذكية، وانتقل به من المدينة إلى الريف والبادية وتعامل مع الموروث بألحان جديدة". فيما كان الناقد الموسيقي والاذاعي الراحل سعاد الهرمزي ينظر الى الحان عباس جميل بأنها "تقع في نقيضين، احدهما عراقية صرف وهي تلك التي تتمثل بألحانه لزهور حسين، وآخر تكاد أن تكون مصرية صرفة تتمثل بأغنيتي "تحاسبني على الأيام" و "ما أظلمك يا ليل". ولكنه نجح في النقيضين، ولم يضع أو يتشتت نتاجه أو هويته اللحنية بينهما. وهكذا ترك بصمتين مختلفتين في أعماله الكثيرة، كل بصمة تؤشر اتجاهًا معينًا في طريقة التلحين". ويعود اصل هذا الملمح "المصري" في الحانه، كونه بدأ نتاجه التلحيني، في خمسينيات القرن الماضي، او الفترة الذهبية للألحان المصرية، فـ"كان لابد من أن يعشق عباس جميل الجملة اللحنية الشرقية، الآتية مباشرة من مصر". ذاكرة العقل الموسيقي عرف عن الفنان عباس جميل، اضافة الى حلاوة الصوت، وقدرة فذة على صناعة الانغام وابتكارها، بحلاوة المجلس، وطلاوة الحديث وسرعة البديهة وحفظ الشعر، فذاكرته "شريط حافل يحفظ لمسيرته الفنية المعطاء كل دقائقها، حلوها ومرها، سعيدها ومؤلمها"، بحسب ما وثّقه الناقد الموسيقي يحيى ادريس في حوار غني نشر العام 1977 مع صاحب اغنية "جيت يا أهل الهوى اشتكي من الهوى"، حد ان ما ورد فيه من تفاصيل، جعلته "يمثل تاريخا لحقبة فنية حافلة..ليس بالنسبة لمسيرة عباس جميل، فحسب، وانما لمسيرة الفن الغنائي في العراق".
وعن تجربته فهو يؤكد على سعيه الخاص على تقديم الاغنية العراقية بـ"الصيغة الفنية الصحيحة"، موضحا "اول صوت اعتمدت عليه في ذلك هو صوت المطربة الراحلة زهور حسين. اما وحيدة خليل فان صوتها يمثل الاغنية الريفية الصحيحة، فيما يمثل صوت سليمة مراد اللهجة البغدادية الاصيلة، فيما تميز صوت عفيفة اسكندر بالظل الغنائي الخفيف، الذي كان له وقع في قلوب الناس، اما المطربة مائدة نزهت ففي بداية عام 1954 شدني صوتها، فلحنت لها اول اغانيها للسينما في فيلم "الدكتور حسن" التي حققت نجاحا كبيرا وبشكل سريع للغاية، وكانت الاغنية "جاني من حسن مكتوب وياها الفرح مصحوب". وقتها لم تكن مائدة قد قدمت اغاني من الاذاعة فسبقني في استخدام صوتها للاذاعة الملحن احمد الخليل، حيث قدم لها اغنية "اصيحن اه والتوبة"، لكنني سرعان ما لحنت لها اغنية تختلف في طريقتها عن الطريقة التي لحّن فيها الخليل، فكانت اغنية "يا كاتم الاسرار". وعن المسار الذي مضت فيه ألحانه ما بعد العام 1958 ودخول العراق مرحلة النظام الجمهوري، يقول "اخذت افكر في عطاء جديد..تتحكم فيه الانغام المتعددة والتوزيع الهارموني، فتطرقت الى الاغنية الموزعة وكانت في مقدمة هذه الاغاني اغنية "جاوين اهلنه" التي وزّعها الموسيقار التشيكي، كوبتسا، ووجدت هذا التوزيع الجديد، انه ذو تأثير لدى جمهور المستمعين، فسرت على هذا الاتجاه وكنت احث اخواني الملحنين للسير في هذا الخط الموسيقي الذي يرفع من مستوى التذوق الى درجة أحسن، ومن بعدها قمت بسفرات الى كل من مصر والجزائر وتونس والبحرين والكويت وشمال افريقيا وكذلك جيكوسلوفاكيا والمانيا وبريطانيا وقدمت العشرات من الاعمال لاذاعتها، كما زرت بلدان الخليج العربي. اما عن جهده في البحث الموسيقي وثقافة الانغام الرفيعة فيقول، "كلفني الاستاذ منير بشير بتقديم محاضرات عن خصائص الموسيقى العراقية والحفاظ على التراث العراقي وقد القيت هذه المحاضرات في نادي جمعية الموسيقيين العراقيين، وتوصلنا الى نتائج جيدة منها ضبط الاسماء العراقية في الموسيقى، وتقريب المصطلحات الى المستمع العراقي والعربي". وفي اذاعة بغداد قمت بتقديم ثلاثين حلقة بعنوان "حياة فنان" وهي عبارة عن دراسة لاشهر المغنين والموسيقيين العراقيين ". حصيلة نقدية للملحن- المغني وبحسب دراسة نقدية(1) فانه "من الثابت ان عباس جميل قدم نفسه ملحنا مقتدرا في صيف عام 1948 من خلال صوت زهور حسين، ووقتها انتبهت الذهنية العراقية الى عذوبة اللحنين، حيث كشف هذا الملحن عن قدرة فائقة في الصنعة التلحينية التي اعتمدت أساساً على دغدغة الحس الشعبي والذوق العام، وان كانت تلك الاغنيتان لا تشكلان في القياس النقدي نقلة نوعية متقدمة في الاغنية العراقية، لانهما خضعتا للنزوع المرغوب عند السميعة التي كانت تميل الى البهرجة الحزينة والشكوى". لذلك اعتبر عباس جميل وبالتقييم الجماهيري "فتحا ممتعا في التوجه الغنائي وموهبة مبشرة وثرية"، ومنذ ذلك التاريخ بدأ فنانا يشق طريقه الصعب بجانب كوكبة من الملحنين: رضا علي و يحيى حمدي ووديع خوندة وعلاء كامل وناظم نعيم واحمد الخليل الذين كانوا يملأون الساحة الغنائية عطاءً ونشاطاً هاضمين لمعظم الالوان الغنائية العراقية ومسحورين بنهضة العطاء الوهابي (محمد عبد الوهاب) والاطرشي (فريد الاطرش) والسنباطي (رياض السنباطي). استطاع عباس جميل ان يقف على قدميه ملحناً ومؤدياً، لأنه "اغتنى بعطاءات المدرسة المقامية العراقية التي كان يقف على قمتها المطرب الكبير محمد القبانجي الذي ادهش ملحنينا بطريقته الادائية وبولعه في اكتشاف مقامات كانت مجهولة في الساحة الغنائية التي فيها: مقام اللامي والمقطر والنيروز، وانه اي القبانجي اول من غنى مقام النهاوند في العراق، وقد شكل هذا الاكتشاف انبهاراً عند عباس جميل جعله يغرق حتى اذنيه في دراسة المقام العراقي والتوغل في ابعاده واسراره، وقد توفق في هذا واعتبر من الموسيقيين الذين يدركون اسرار المهنة المقامية، إضافة الى انه واصل الاستماع الى رواد المقام الكلاسيكي ومنهم: رشيد القندرجي وعبد القادر حسون ونجم الشيخلي وآخرون من الذين كانوا يتفانون للحفاظ على الفورمات التقليدية في المقام العراقي ويعتبرون الخروج عليها تجاوزاً غير مشروع، وبين المدرسة المقامية الجديدة الممثلة في نهج القبانجي والمدرسة الكلاسيكية نشأ لحن عباس جميل الذي مال بكله للمقام الجديد مع محاولات جادة في الحفاظ على مكونات القالب المقامي والتحرك الايجابي لتأسيس الملامح الواضحة لأغنية تميزه وتجعله منفرداً في عطائه في الاربعينيات من القرن الماضي". أن ذكاء عباس جميل تجسد في استطاعته "هضم الوان المدرسة الغنائية المصرية والمدرسة المقامية العراقية والخروج بالحان جديدة لها خصوصيتها الواضحة واساسيات ما زالت شاخصة في حقل الاغنية العراقية". والمنطق النقدي يلاحظ ان جميل راح "يتكاسل ويتثاقل في توظيف قدرته اللحنية الامر الذي دفعه لان يكرر نفسه (حتى ذلك الوقت اي في عام 1983) لم يضع لحنا متميزاً، و ربما يرجع السبب الى عامل الزمن خاصة وأن عباس جميل لم يطور من موهبته الفنية وذلك من خلال صقل هذه الموهبة الفذة بالاختزان الثقافي الصحيح في دراسة الموسيقى وهي آفة الملحن العراقي الذي اكتفى بما قدمهُ على الرغم من أنه قادر على العطاء الجيد، فهو فنان صاحب أكبر ألحان وعليه أن يتواصل بعطائه الفذ لأن الأغنية العراقية بحاجة الى هذا التواصل وبحاجة إليه بالذات". (1) يحيى ادريس، مجلة "فنون" العدد 206 الصادر في آذار العام 1983
|