علي عبد الأمير لم
يعوض العمر المتقدم للملحن والمطرب عباس جميل 1921-2006 الاحساس بخسارة فادحة (1) يتعرض لها الفن العراقي
المعاصر عموما وموسيقى بلاد الرافدين على وجه الخصوص، فالراحل الذي ولد في محلة
شعبية وسط بغداد (باب الشيخ) في العام 1921 كان من النوع الذي لايعوض لجهة الوفرة
النغمية التي انتجها وطبعت خارطة الغناء العراقي لاكثر من نصف قرن. فالى جانب
الغناء البغدادي والوانه اللحنية المرهفة، تمكن جميل من ابتداع عشرات الالحان
الريفية التي صاغها ببراعة لتناسب خامات صوتية ابتداء من صوت المطربة زهور حسين
وتشكيله معها ثنائيا وصف بانه النسخة العراقية من " القصبجي- ام كلثوم"
الى صوت سليمة مراد مرورا بصوت المطربة وحيد خليل.
الراحلان عباس جميل وناظم الغزالي في ذروة مجد الاغنية العراقية: خمسنيات القرن العشرين وعلى
الرغم من عمره المتقدم الا ان الراحل استمر في قلب مشهد بلاده الموسيقي، فأشرف حتى
قبل عام على "فرقة الرافدين" التابعة لـ" دائرة الفنون
الموسيقية" صحبة الفنان والمربي جميل جرجيس، وهي فرقة مؤلفة من خمسين عازفا
ومغنيا من كلا الجنسين، كانت تعد لاعمال تعتبر من عيون الموسيقى العربية
والعراقية. وفضلا عن اشرافه الفني على تلك الفرقة، كان الراحل يصوغ ألحانا جديدة واخرى
قديمة كي يؤديها ابنه المطرب الشاب فيصل.
الملحن
عباس جميل شيد بناء غنائيا عراقيا معتمدا على قاعدة "السهل الممتنع"،
فجاءت ألحانه قريبة من مشاعر الناس لكنها ظلت تشع عقودا من الزمن لما حفلت به من
طرائق لحنية هجست بالمعاصرة على الرغم من ان كثيرا منها شاع في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وصولا الى
السبعينيات وعبر اصوات: زهور حسين، وحيدة
خليل، عفيفة اسكندر، سليمة مراد، أحلام وهبي، مائدة نزهت، سعدون جابر، صلاح
عبدالغفور وأمل خضير وغيرهم من مطربات العراق ومطربيه.
الراحل
جميل يرى في حديث صحافي " خلال حياتي الفنية التي تجاوزت 55 عاما تمكنت من
احداث تغيير بسيط في الأغنية العراقية ولكنه كما يراه المهتمون تغييرا مفصليا،
وأصبحت الأغنية ذات موضوع يعالج نصا ولحنا وتوزيعا، بعد ان كانت بناء لحنيا سهلا
يعتمد مرافقة النص الشعري ".
وفضلا
عن "التغيير البسيط ولكنه المفصلي" الذي احدثه في الاغنية العراقية، فان
من النادر ان يوجد ملحن عنى بـ"روحية عراقية" في الأغنية، مثلما عنى
عباس جميل ، حد ان انغامه التي صقلت اصوات المطربتين، وحيدة خليل وزهور حسين، يمكن
ان تكون نموذجا لافتا لما عرف بالغناء الريفي المتطور، وألحانه تبدو قادرة حتى
اليوم على نقل احساس المستمع الى بيئة ريفية مشبعة لكن عبر وسط نغمي ينتمي الى
البناء اللحني المعاصر الذي كان الراحل خبره عبر دراسته في "معهد الفنون
الموسيقية" آواخر اربعينيات القرن الماضي.
هذا
الجانب في صوغ " روحية عراقية في الغناء منفتحة على المعاصرة" تدعم عند
عباس جميل من معرفته بالوان "المقام العراقي" فضلا عن معرفته بعيون
الموسيقى العربية كما في اعمال محمد عبدالوهاب، سيد درويش، زكريا أحمد، رياض
السنباطي ومحمد الموجي، ولم تترجم تلك الروحية العراقية مثلما ترجمت في ألحانه
التي باتت ممر اكتشاف اصوات مثل صوت المطربة عفيفة اسكندر في أغنية "أصيحن آه
والتوبة" والمطربة زهور حسين في اغنية " اخاف احجي" التي حوّل فيها
مسار غناء صاحبة البحّة الآسرة من الميزان الثقيل الى الميزان السريع، و المطربة
وحيدة خليل في أغنية "على من يا قلب تعتب على من".
وعن
علاقته بالمطربة زهور حسين يقول الراحل جميل " تعرفت على زهور حسين سنة 1942
في دار الاذاعة حين بدا الملحنون بالبحث عن ألحان يقدموها لصوت زهور حسين القوي
الذي يتمتع بابعاد غنائية كبيرة. وفي سنة 1948 لحنت لها اغنية" اخاف
احجي"، ومع تلك الاغنية وجدت زهور حسين شخصية متميزة لم ينافسها فيه سوى
لميعة توفيق ووحيدة خليل التي لحنت لها:" غريبة من بعد عينج يايمة "،
" يا ام عيون حراكة"،" جيت
يا اهل الهوى" و"هله وكل الهلة".
وفي
حين حمل موسيقيو العراق نعش عباس جميل،
فانهم كانوا يحملون إرثا عميقا في اللحنية العراقية، إرثا امتد أكثر من نصف
قرن، قدم نبعا من انغام تنتمي الى البيئات العراقية المختلفة ضمن نسيج نغمي واحد
قلما يتكرر، وصاحبه هو "ذلك هو الملحن والمطرب الكبير الذي له أهمية
استثنائية في الأغنية العراقية المعاصرة، ويعتبر من روادها التي بدأت في خمسينيات
القرن العشرين مع مجموعة من الفنانين الكبار امثال: احمد الخليل وجميل سليم ورضا
علي ويحيى حمدي وداود العاني، وهو يمتلك تاريخاً فنياً حافلاً بالألحان الخالدة
التي أتسمت بطابعها المحلي البغدادي الاصيل"(2).
من
صرامة العسكرية الى رحابة الموسيقى
وتبدو
المصائر الانسانية عجيبة حين تتدخل في رسم مسارها، عوامل غير محسوبة، ومثل هذا
الأمير ينطبق على فناننا الكبير الراحل، فـ"أول من فتح له الطريق في مشروعه
الفني، رئيس الوزراء نوري السعيد عندما توسم فيه الموهبة الموسيقية، فقرر نقل
خدماته من الكلية العسكرية التي كان مدرباً عسكرياً فيها إلى موسيقى الجيش، لكن الموسيقار
البريطاني الميجور، سي نيل، وهو الخبير الموسيقي والعسكري والذي تولى مسؤولية
تدريب جوق الموسيقى العسكرية (المقر العام في بغداد) آنذاك، اعتذر عن قبول عباس
جميل في ضمه إلى الفرقة برغم موهبته لأنه وجد فتحة بين أسنانه الأمامية، لكن
الباشا (نوري سعيد) لم يخيب ظن المبدع العراقي الكبير فاقترح عليه التقاعد برتبة
أعلى حتى يتفرغ لفنه الراقي لان الجيش يتطلب القسوة والخشونة أما أوتار عوده فأنها
تحرك شرايين القلب وتسحر الناس، ففرح
الفنان عباس جميل من كل قلبه بقرار الباشا نوري سعيد والذي كان عازفاً هو الآخر
رغم دهائه السياسي، فهذا القرار سوف يغير مجرى حياته والى الابد لأنه سوف يتفرغ
لإبداعه وموهبته الموسيقية".
بغداد
حاضرة مدينية
وحين
كانت بغداد اواخر اربعينيات القرن الفائت، مدينة واعدة ثقافيا وانسانيا وحضاريا،
وتطبع بملامحها كل من يأتي اليها طالبا العلم او الرزق والانتاج الفني والابداعي،
كان الموسيقي الشاب حينها، عباس جميل، والملىء بالحماسة للتجديد النغمي، قد انشغل
في قراءة "الخطوط العامة للأغنية العراقية"، بما يجعلها بملامح تجمع روح
الاصالة ولكن في سياق تحديثي، فحتى ألحانه
المبكرة امتازت بطابع "مديني" رائق حتى وإن بدت "ريفية"
الهوى، فقد "عمل عباس جميل على تمدين الغناء الريفي".
المعرفة
ونتاجها الجميل
دخل
معهد الفنون الجميلة للسنة الدراسية 1950- 1951 ، ليتخرج بدرجة شرف، عيّن بعدها
معلما للنشيد في احدى المدارس الابتدائية، وحينها بدأ مشوار التلحين، عبر تجربة
أولى مع المطربة زهور حسين وتحديدا في اغنية "اخاف احجي (احكي) وعليّ الناس
يكولون (يتكلمون)"، اذ كان تعرّف عليها عام 1952 في دار الاذاعة وهو في اول
مشواره اللحني، ولاحقا شكّل معها ثنائياً
متميزاً ، فغنّت له من الالحان ما ظل عميقا في الذاكرة، بل ان من رصيده الذي يزيد
على أكثر من 400 اغنية من اطوار واشكال لحنية عدة، كان لزهور حسين أكثر من 60
اغنية.
وعن
هذا "الثنائي" يقول صاحب اغنية "غريبة من بعد عينك يا يمه":
ان زهور حسين "كانت تتمتع بالطبقة الصوتية العالية، والتي جعلتها تصدح
بالجوابات وتضعف بالقرارات ولكن تمتلك روح الفطرة في الغناء الذي جعلها تهيمن
وتسيطر على قوة اللحن اثناء الغناء وغالبا ما تترجم مفردات الشعر الغنائي من اللغة
العربية الى اللغة الفارسية لانها كانت تجيدها، مما يضيف في حلاوة الطرب وحسن
استماع المتلقي، الذي اقبل على نتاج الثنائي الطروب كما في اغنيات "جيت يا
أهل الهوى اشتكي من الهوى"، "سلمى يا سلّامة"، "يم عيون
حرّاكة"، "سودة اشلهاني يا يمه" "يا عزيز الروح يابعد
عيني"، " انت الحبيب والله" "تفرحون... افرحلكم".
خلال
دراسته الموسيقية العلمية، تعلم على يد الموسيقار روحي الخماش وعلى مدى سنتين،
اصول كتابة النوتة الموسيقية واصول العزف على الة العود، فدرس على يد سلمان شكر،
ومنير بشير، ثم تتلمذ على يد ابرز اساتذة المقامات العراقية في بغداد محمد
القبانجي، حسن خيوكة وعبد الهادي البياتي، مثلما عاصر ايضا كبار ملحني الاغنية
العراقية، في جو من التنافس الخلاق مما انتج للاسماع المرهفة، اغنيات صارت ايقونات
الوجدان العراقي الشعبي، كما تلك الالحان التي قدمها لصوت المطربة الريفية الراحلة
وحيدة خليل: "ماني صحت"، "على بالي ابد" و"عين بعين على
الشاطي تلاقينا"، مثلما نستعيد بإعجاب مستحق عشرات الالحان للمطربات
العراقيات مثل مائدة نزهت التي لحّن لها "يا كاتم الاسرار"،
"العيون" و "عشك اخضر"، ولعفيفة اسكندر اغنية "على
عنادك"، كما لحن للمطربة سليمة مراد باشا "يا يمه ثاري اهواي"، كما
لحن لأمل خضير، غادة سالم، انوار عبدالوهاب، لميعة توفيق وسيتا هاكوبيان، اما
مزيجه الثر من الالحان، فنالت منه اصوات المطربين: عبد الصاحب شراد، فاضل عواد،
احمد نعمة، قاسم عبيد، سعدون جابر، سعدي الحلي وجاسم الخياط.
(1) علي عبد الأمير، صحيفة
"الحياة" بعد ايام من رحيل الفنان عباس جميل نيسان 2006 (2) الفنان عباس جميل
- عميد الاغنية البغدادية: الجزء الاول من دراسة أعدها الدكتور حيدر السماك وبإشراف
الباحثة الموسيقيه فاطمة الظاهر، موقع الوتر السابع.
|