احتجاب الصوت وحجاب صاحبته؟
مع قرار اعتزال السيدة نزهت الغناء منتصف الثمانينات، تكون ساحة الغناء العراقي قد خلت من صوت طليق، ومن حساسية
رقيقة في الإداء، واصبح اعتزال مائدة نزهت وصوتها "السوبرانو"، بـ"جوابات
وقرارات متكاملة"، مادة للأقاويل
والشائعات، فمنهم من قال انها "نية مبيتة، وان اعتزالها وهي في ذروة نضوجها ونجاحها
امر مدبر ومخطط له لتبقى هي فوق القمة، فهي اختفت والساحة خالية من الأصوات النسائية
المتمكنة، وتركت وراءها فراغا لم يمتلئ حتى الان، وهناك من قال انها اعتزلت خوفا من
تأثير تقدمها في السن، وقالوا انها تحجبت وتعيش حالة من التصوف".
وبعد اكثر من عقد على قرار اعتزالها كانت المطربة مائدة نزهت، كانت
صاحبة "كل ما امرّ عالدرب"، تعيش بعمّان في عزلة تامة مع وزوجها وديع خوندة الذي قيل انه تحول الى مؤذن قبيل وفاته ومعهما ابنتها، وكانت قصدت "بيت الله الحرام " للحج، وانقطعت الى العبادة وارتدت
الحجاب. وهي تواصلا مع نهجها الجديد كانت قد طلبت من "الإذاعة والتلفزيون"
في بغداد، سحب اشرطتها الغنائية الصوتية والمرئية، الا ان طلبها قوبل بالرفض، كون اعمالها
باتت تمثل جزءا من الأرشيف الغنائي العراقي، وهي ليست ملكا شخصيا للمطربة. ثمة من يرى ان "عامل الكبر في السن هو السبب الذي دفع نزهت الى الاعتزال"
، فالغناء يحتاج الى طاقة جسدية ونفسية واجتماعية كما انها " أدت كل الالوان الغنائية العراقية، وقد تكون وصلت الى
قناعة انها اعطت للغناء الشيء الكثير وهذا يبدو كافيا لها"، لاسيما انها "من مغنيات بغداد المتقدمات ولا يوجد صوت جديد يمكن ان يحل محلها او ان بديلا لها ".
لكن الامر ليس على هذا النحو وحسب، فالسيدة نزهت وفي لحظة صفاء ما
ومراجعة مع النفس، لا بد وان تساءلت: ما الذي جعلني اتحول من الغناء للمشاعر
الانسانية الصافية، الى تمجيد "ابو حلا" والغناء لحربه وقذائفه وصواريخه
وامجاده؟ أليس الصمت والاحتجاب افضل من هذا المآل؟
وقد تكون اكثر جرأة في السؤال: كيف تحولت من وسط فني خلاق يضم ابرز
صناع النغم العراقي الجميل، وبيئة اجتماعية ترحب بأغنياتي العاطفية البغدادية
الرقيقة، الى وسط ثقافي حكومي وحزبي يلبسني الملابس العسكرية ولا ينظر الى الفنانات
الا وفق مستويين: التطبيل الدعائي للمعركة ومديح القائد، او بوصفهن "نساء قيد
الطلب"؟
السيدة مائدة نزهت الى جانب عازف العود الاستاذ علي الإمام (سبعينيات القرن الماضي) الغناء بوصفه عارا!
وبعيدا عن الاسئلة، لكن قريبا في مضمونها وجوهرها، فان السيدة مائدة
نزهت، هي حقا ابنة الطبقة المتوسطة العراقية في صعودها، فتقدم الغناء العاطفي
الجميل، يوم كانت تنهض تلك الطبقة ببناء البلاد عبر المعرفة والتقاليد المهنية الجديدة،
وفي جو صارت فيه التجربة العلمية والخبرات العملية اساسا اخلاقيا تراجعت معه قيم
التخلف الديني والعشائري، وصار معه طبيعيا ان يبلغ عدد المغنيات اكثر من المغنيين،
وسط جو من صناعة الفنون بطريقة طبيعية قائمة على التنافس النوعي، وهو ما انتج
الحانا وقدم اصواتا هذّبت المشاعر والنفوس. مثلما هي ابنة الطبقة المتوسطة
العراقية في تخاذلها امام صعود قيم الحزبية والتنكيل السياسي ولاحقا عسكرة
المجتمع، فكانت الفنون ومنها الغناء، امام مجال تعبير يضيق شيئا فشيئا، ولم يعد
غريبا، كما بدأنا هذا الجزء، ان تنتقل صاحبة اغنية "ام الفستان الاحمر" الى اداء "حياك يا ابو
حلا"، وصولا الى كونها ابنة هذه الطبقة وهي تترنح تحت قيم الدين المتبجح
والعصبوية العشائرية في وقت تدخل فيه البلاد عصرها الاكثر ظلاما، لتتحجب وتعتبر
سيرتها في الغناء "عارا" يجب التخلص منه. *الجزء الاخير من دراسة مطولة |