خفوت الاشراقة البغدادية
ومع تحول العراق ما بعد تموز 1958، من
"الفرح الجماعي" بإسقاط النظام
الملكي، الى مرحلة التنكيل والمحاكمات ومحاولات الاغتيال بين الحكام الجدد
وامتداداتهم الحزبية والشعبوية، بدت مساحة التعبير الفني المستقل وقد ضاقت قليلا
وسط اجواء الاحتراب والتنكيل السياسي وتوجيه النتاجات الثقافية الشعبية، كالغناء
مثلا، نحو بداية مرحلة تأليه الزعماء ومديحهم، وجد فنانون ومثقفون انفسهم بين خيارين:
الإندراج في المرحلة الجديدة، او الانزواء، وهو ما يعرضهم لاسئلة السلطات التي بدت
تكشر عن انيابها، مما اضطرهم الى مغادرة البلاد، فسافرت مائدة نزهت مع زوجها وديع
خوندة عام 1962 الى بيروت، وفي هذه الفترة من اقامتهم في بيروت لحن لها زوجها
اغنية "يا خوية ويا احلى خي"، و"لو ما الهوى يا اهل الهوى"
التي كتبها سبتي طاهر ولحنها الملحن اللبناني عفيف رضوان الذي سيلحن لها ايضا
"كاعد على دربكم".
وبعد نحو عام عاد الثنائي:
"نزهت- خوندة" الى البلاد، التي ستشهد وتحديدا في شباط 1963، انقلابا
دمويا رهيبا استهدف كثيرا من خبرات البلاد المعرفية والفكرية، ثم انقلابا على
الانقلاب وذلك في 18 تشرين الثاني من العام الاقسى ذاته، وهو ما اضطرهما للعودة
الى بيروت ثانية حيث ساعدهما الموسيقي الفلسطيني الاصل حليم الرومي (والد المطربة
الشهيرة لاحقا ماجدة الرومي) اذ كان مسؤولا عن الموسيقى في الاذاعة اللبنانية، وقد
لحن لصوت نزهت، بعض الملحنين العرب منهم حسن غندور وعفيف رضوان وخالد ابو النصر
وسعدون الراشد، وكذلك غنت للكويتيين عوض دوخي وحميد الرجب بعد ان سافرت الى الكويت
لفترة.
ومع عودة الثنائي الى العراق ما بعد
انقلاب البعث الثاني في عام 1968، بدأت مائدة نزهت في توديع حال الاشراقة
البغدادية الرقيقة شعرا وموسيقى واداء، لصالح "اغنيات وطنية" مباشرة
تناسب المرحلة السياسية، فكانت اغنيات واناشيد "قفوا هنا" التي كتبها
عبد السلام ابراهيم ولحنها وديع خوندة الذي لحّن لها ايضا قصيدة "حبيبتي
بغداد" للشاعر شفيق الكمالي، واغنية "عراق التأميم" التي كتبها
ناظم السماوي ولحّنها ياسين الشيخلي، و"شمس بغداد" التي لحّنها محمد
سلمان.
ان رقة بغدادية وانسجام وجداني شفاف
كما في اغنيتي "يا قلبي لا تكول التوبة" و"حبي وحبك" اللتين
لحّنهما الراحل محمد نوشي، وعشرات وفق منوالهما، كنا اشرنا اليها اعلاه، تحولت
لاحقا الى عسر لا في الاداء وحسب، بل فوضاه وليس تنوعه، فلا اغنية محددة الملامح
والشكل، بل ثمة النفيس الراقي كما في اغنية "سألت عنك" التي كتبها عبد
الكريم مكي ولحّنها فاروق هلال، باقتدار موسيقي عال، الى جانب خليط عسير من الالوان
الغنائية، فمن الحان رضا علي، اغنية "حمد يا حمود" التي كتبها خزعل
مهدي، واغنية "لا تعتذر" التي لحنها سالم حسين، و"دور بينا يا
عشك" التي صاغها شعرا زهير الدجيلي ولحنها ياسين الراوي الذي قدم لها اغنية
مشرقة اخرى هي "حلوين"، واغنية "لا يا هوى" بلحن طالب
القرغولي، و"الحاصودة" التي لحنها كوكب حمزة، وصولا الى مرحلة اداء
المقام العراقي، لتكسر بذلك احتكارا رجاليا لغناء هذا الشكل الموسيقي الذي يتطلب
مهارات في الصوت وفنون الاداء.
ويرى الناقد الموسيقي الراحل، عبد
الوهاب الشيخلي، ان "السيدة مائدة نزهت، كانت قد وجهت اهتمامها بهدوء ورصانة
الى نظرة مغايرة سواء الى الحياة او الفن. وقد كانت منذ بداياتها الفنية اواخر
الاربعينيات واوائل الخمسينيات قد شرعت بالكشف عن حالة حضارية في فنها، حيث عبرت
في غنائها عن روح المدينة، وكرست لأجل ذلك كل وعيها وادراكها … لقد كانت مائدة
نزهت حلقة حية في سلسلة الغناء البغدادي في اغانيها الحديثة والملحّنة وكذلك في
المقامات العراقية التي ادت مجموعة منها منذ اواخر السبعينيات وحتى اعتزالها الفن
بشكل نهائي، هذه المقامات التي كان رعاتها المؤدون الكبار في القرن التاسع عشر
والقرن العشرين ، ومن حيث انها بدأت مطربة للاغاني الحديثة، فقد اكدت تفاعلها مع
المجتمع من خلال صوتها الجميل والمتمكن والسليم من العيوب وتعابيرها البغدادية
الاصيلة، وبذلك فقد اوجدت وثبتت لها طريقاً واسلوباً ادائياً فنياً بزت فيه كل
المطربات العراقيات في القرن العشرين".
مائدة نزهت: ابنة المجتمع العراقي والمعبرة عنه ويضيف في قراءة الدور الاجتماعي لأغنيات السيدة
نزهت "انني ارى ان مائدة نزهت في هذه الاغاني وغيرها ومقاماتها ايضاً بعدئذ،
تبدو وكأنها وصلت فعلاً الى النقطة التي امتزجت فيها مع المجتمع وجمهورها المتلقي بأوسع
معانيها وأقواها … انها ابنة هذا المجتمع وبالتالي فهي المعبرة عنه بإخلاص وصدق …
واكثر من هذا فان الانعكاسات التعبيرية الادائية لدى مائدة نزهت ونوع صدقها في هذه
التعابير التي عكست الخصوصية البغدادية خاصة والعراقية عامة، لا يسعنا الا ان
نجدها سابقه لأوانها الى حد مذهل اذا ما اخذنا بالاعتبار موقفها الاخلاقي من
انتمائها لعراقيتها وبغداديتها واخيراً محليتها البيئية … واذا تنحينا جانباً عن
هذه الحقائق التي تبين لنا السيدة مائدة نزهت أنها شاهدة لواقعها وبيئتها
وخصوصيتها العراقية على نحو لا يعترف بها دوماً … فأننا نجد نزعتها التعبيرية هذه
في ادائها للأغنية الحديثة كانت قبل كل شيء موقفاً اخلاقياً مهذباً فقد كانت تصر
على اقصى درجة ممكنه من عكس الثقافة العراقية وشموخ الفن الغناسيقي العراقي".
مطربة اغنية حديثة قبل كل شيء
انها "مطربة اغنية حديثة قبل كل
شيء"، ويبدو هذا التوصيف مهما واساسيا قبل الدخول الى تجربة السيدة مائدة في
غناء المقام العراقي، فما ان حل العقد السبعيني من القرن العشرين، حتى قدر لمجموعة
من الفنانين المختارين من قبل الفنان الراحل منير بشير ان يكوّن منهم " فرقة
التراث الموسيقي العراقي"، التي عنت بتقديم الوان من الغناء التقليدي صحبة
الآت الموسيقى الاصيلة: العود، القانون، الناي، الجوزة والسنطور، فكانت السيدة
نزهت من بين اعضاء الفرقة، متخصصة بغناء المواويل والليالي بالأسلوب الرصين، ثم
انتقلت الى اداء المقام العراقي، لتنجح في ما بدا اختبارا صعبا، ويبدو سر هذا
النجاح عائدا الى كونها قد تحصلت على خبرات كبيرة في اداء اشكال غنائية مست حالات
شعورية عدة، ونضج صوتها في اداء الحان وضعها ابرز مبدعي الموسيقى العراقية
المعاصرة.
وعن مشوارها مع "المقام
العراقي" يقول الناقد الشيخلي "مائدة نزهت تكون قد عبرت في هذه المقامات
بأسلوب أدائي مغاير لجميع المؤديات والمؤدين المعاصرين لها، واستطاعت ان توصل
صوتها في هذه المقامات الى العالم اجمع، فكانت مقامات زاخرة بالحيوية الدرامية
والتعابير الجذابة التي تذكرنا دائماً وفي مناسبات عديدة بالمعنى الفني والجمالي
والتقني لمقاييس الاداء الدقيق التي اسبغت عليه تفسيراً اقرب الى العبقرية في
التعبير والجمال والذوق وسحر الخيال العاطفي
. *الجزء الثاني من دراسة مطولة
|