علي عبد الأمير* غياب الجنود والضباط
عن حامية راوندوز بعد ذهاب وحدتهم القتالية ( اللواء 23 مشاة) الى الحدود مع ايران،
جعلها اكثر وحشة، وعتمتها اكثر كآبة، غير ان ما جعلها مشعة هو صحبة ستكون لاحقا
جرعة باذخة من الآمال، ففي صباح احد الايام العاطلة عن الحياة التقيت اثنين من الجنود
وثمة ابتسامة طافحة قابلاني بها وبعد تحية سألاني: "هل انت د.علي الطبيب البيطري
الجديد لمذخر التموين"، فأجبتهم بنعم شاكرا لهم السؤال وسألت عن اسميهما، ليجيباني
بانهما المهندسان نزار وهاشم، وعدتهما بان ازورهما مساء في "غرفة المهندسين"
كما كان الجنود يسمونها وهي عموما ليست بعيدة عن غرفتي التي كانت تحولت جدرانها الى
معرض لأحلامي المؤجلة، فكنت اجد في بعض الصور الفوتوغرافية التي تنشرها المجلات، تعويضا
عن مشاهد كنت اجدها تنسجم مع تطلعاتي ورؤاي عن العالم وعن حياة طبيعية يمارس فيها الانسان
رغباته بحرية وانسجام، ومنها صورة رجل بمعطف طويل يبتسم وهو يمشي على رصيف انيق فيما
امرأته تستند الى كتفه، وامامها يطير سرب من الحمام.
في "غرفة المهندسين"
دخلت لأجد بشاشة لا تنسى في وجه نزار اوديشو، دماثة خلق وحيوية وذكاء وضحكة في العيون
قبل ان تكون على الشفاه، ثم هاشم الاجعد الشعر والطويل حد انحناء الظهر، وقبل ذلك الساخر عبر جملته الشهيرة التي ستصبح لازمة
لنا جميعا "خرا ... بذاك اليوم الاسود "، وجاء لاحقا المهندس حسام الوسيم
بعيونه الخضر التي لم تتمكن من اخفاء جوانية حزينة، ثم " القصير المكير "
ليث سبع درباش، او من كان يطلق عليه نزار " أل أس دي" وهي الحروف الثلاثة
الاولى من اسمه واسم عقار مخدر شاع في اواسط السبعينات بين الشباب في الغرب، وقصر قامة ليث وصلعته وصوته الجهير تدل على
" شخصية ماكرة"، كانت طبيعية مع شخصية رجل مقامر، وثمة ايضا المهندس عبد
الرحمن الذي ينام كثيرا ويصمت اكثر ان صحا، وثمة المهندس سلام الذي كان "المصلي"
الوحيد بيننا.
النوم جوار ميت!
مع هذه المجموعة
بدت ايام قلعة رواوندوز اقل وحشة، حتى ان القصف الذي تعرضت اليه ثكنتنا في اليوم الثالث
للحرب العراقية، قابلناه بمزيج من السخرية
والخوف، لاسيما انها التجربة الاولى للمهندسين
مع الموت في الحرب، فيما كنت سبقتهم اليها حين قصفت ثكنتنا في تشومان ليلا بقذائف صاروخية
من مجموعات المقاتلين الاكراد "البشمركة"، او من كانوا يعرفون بحسب التسمية
الحكومية في بغداد "العصاة"، حينها جاءنا جندي جريح وقد اخترقت رئتيه شظايا
عدة وعجز مساعد الطبيب عن وقف نزيفه فمات، وكان علينا في المفرزة الطبية ان ننام ليلتنا
ونحن الى جوار ميت .
في الطريق الصاعد من الحامية العسكرية الى مدنية راوندوز
في اليوم الأول
من الحرب؟
في قلعة راوندوز،
بدا اليوم الاول للحرب طويل طويل جدا، لا لأنه حمل وقائع جديدة وخارج الايقاع الروتيني،
وانما في خطب الحماسة الكثيرة التي كان يحملها الراديو الرسمي، وفي احساسنا جميعا
( انا والمهندسين) بان القذائف التي اطلقت في اليوم الاول للحرب، كانت اطلقت فعلا علينا نحن، وعلى املنا بالخروج القريب الى الحياة، لاسيما اننا
كنا دخلنا العد التنازلي لخدمتنا العسكرية وكنا فعلا على موعد في نيسان 1981 للانتهاء
من اللون الخاكي وصرامة الحياة العسكرية ( بحسب الجدول الزمني لخدمتنا التي بدأت في
ايلول 1979).
ذلك اليوم الطويل
بدأ مع سرب من الطائرات العراقية يطير خفيضا ولكن بسرعة كبيرة نحو الشرق حيث الحدود
الايرانية ثم بعد نحو ساعة جاء البيان العسكري الذي قطع برنامج " ما يطلبه المستمعون
"، ومع تلك الانقطاعة التي جاءت في التاسعة والنصف من صباح الثاني والعشرين من
ايلول 1980، انقطع الايقاع الطبيعي للحياة في العراق.
في "غرفة المهندسين"
ذاتها ابتهجنا بالموسيقى التي كنت احملها،
وبمشاريع القصائد، وبإدماني لاحقا لعبة "الكونكان" و"البوكر"
بعد ان تعلمتها مع المجموعة الغريبة ذاتها التي اكتشفت لاحقا انها موجودة في ذلك المكان
القصي للسبب ذاته الذي ابعدت انا لأجله، الا وهو اننا جميعا بخلفية سياسية معارضة للبعث، والقاعدة
تقول بأبعاد "المشكوك في ولائهم " الى المناطق البعيدة عن العاصمة، ومثل
هذا الاكتشاف قرّبني الى المجموعة اكثر، وكان
علينا ان " نعترف" بماضينا السياسي وتم ذلك في مساء غريب اختلطت فيه مشاعر
الحرية بمشاعر الخوف والحذر حين سعينا الى الخروج من خنقة الثكنة الى فضاء النزهة، فحملنا ملابسنا " المدنية" لنسرق من وقت
الصرامة العسكرية زمنا ينقلنا الى اجواء طليقة، كالتي كنا نعيشها ايام الجامعة وتحديدا
في تلك الفسحات الرقيقة التي توفرها السفرات الى مناطق سياحية في بغداد او المدن القريبة
منها. ذهبنا الى شلالات بيخال وشربنا بيرة، فيما تحولت مياه الشلالات الى وسيلة لا
تضاهى في تبريد القناني، وتحت افياء الصخور والاشجار، سمعنا فيروز كمقدمة طبيعية لاستعادة
الايقاعات المميزة لايامنا المذبوحة، ومنها كان لابد من الانتقال الى اغنيات الشجن
العراقية التي كنت جمعتها في شريط ما انفك يلمع في ذاكرتي (شريط احمر بتسعين دقيقة
من نوع اكفا)، وفيه اجمل ما غنى ياس خضر وحسين نعمة وسعدون جابر وفؤاد سالم وقحطان
العطار، وحيال انهمار امطار الحزن كان من الطبيعي
ان نخرج من تلك الفسحة مخضبين بشجن بدا اثقل على ارواحنا من فكرة ان نعود الى ممرات
العتمة في قلعتنا الموحشة التي بدت لفرط تطامن ارواحنا معها، وكأنها تحاكي عزلتنا وآمالنا
المشتتة الضائعة.
بكاء العاشق
الحزين؟
عشت الثلج في راوندوز،
وعشت الربيع في احتفاله، مثلما عشت ندائي المحصور بين جبلي زوزك و هندرين، فهربت الى
كتبي وموسيقاي التي تبدأ من خوليو ايغليسياس ولا تنتهي بأسطوانات فريق Beegees ، مرورا بشريط نادر للراحل
الجميل ناظم الغزالي وهو عبارة عن حفلة خاصة كان احياها يوم كانت بغداد تزدهي بطبقتها
الوسطى المثقفة، حفلة تكاد تحس من علامات الاستحسان
التي يطلقها السمّار، ومن الاسترخاء الذي يؤدي به صاحب اللون الراقي في الغناء البغدادي،
انها كانت في مساء صيفي وبحديقة احد الموسورين،
فضلا عن حاجتك الى شطحة بسيطة من الخيال لتتحسس لون العرق الابيض في كؤوس السهارى
والندامى. هذه التنويعة من الاغنيات والالحان كانت فيروز سيدة الصباح بلا منازع، وكان هاشم ينهض من فراشه بفوضويته المعهودة، ليضع
احد اشرطة صاحبة "ميس الريم" ومع اختلاف الاجواء التي كانت تبدعها فيروز،
الا اننا المقهورون الاقزام تحت ظل مديد لجبل زوزك العملاق كنا نفضل اغنية "يا
جبل البعيد "، كونها كانت تحاكي ازمتنا الروحية والوجودية، فدائما في الاغنية
هناك نداء الى الافق المحتجب خلف الجبل، فالأغنية تقول "خلفك حبايبنا"، وعلى
سيرة النداءات الروحية الخاصة، كانت للمهندس
حسام طقوسه السرية مع احزانه الشخصية التي تتجلى حين يتناهى عبر اثير الراديو صوت المطربة
نجاة الصغيرة، فينفصل عن مجموعتنا لينسل بجسده النحيل الى فراشه ويغطي جسده ببطانيته
ويصطحب الراديو ويمضي في نوبة من بكاء مكتوم،
وكنت انا جديدا على طقس كهذا، غير ان
اللافت هو في احترام المجموعة للحظات من الصفاء الشخصي يذهب اليه ابن مدينة طويريج
المهذب والرقيق والوسيم.
صحبة المهندس نزار أوديشو راوندوز شباط 1981 وعلى العكس من هذا الجو الروحي، كان المهندس ليث ينقل جلساتنا وخاصة حين تجمعنا ساعات لعب الورق والرهان
بمبالغ لا بأس بها في تلك الايام، ينقلها الى سوقية وتعليقات لاذعة تنسجم مع شخصيته
" الماكرة" التي تنطوي على انانية مفرطة، بينما مع هاشم تأتي البساطة في
اهاب من العفوية والصدق، ويظل نزار نموذجا لدفء الروح ودماثة الخلق والذكاء، ولذا كان
من الطبيعي ان احرص على اتواصل معه، حتى في
سنوات القحط في التسعينيات ( اي بعد غزو الكويت)، وكانت مفاجأة غير متوقعة حين اصحبني
الى بعقوبة وزرنا معا المهندس هاشم الذي بدا غريبا في منظره الرصين كونه كان مديرا
لدائرة الري في بعقوبة، غريبا عن منظره المحفوظ في الذاكرة: الطفل البريء المدهش على
الرغم من حجمه الضخم. ومع هذا كانت فسحة النزهة ممكنة ، فاصطحبنا "ابو هشوم"
الى بستان عائلته المطل على نهر ديالى، وهناك سكرنا بطريقة غريبة: تحت اشجار الفواكه
حيث كنا نقطف الثمار مباشرة الى افواهنا التي ما انفكت تستعيد ايامنا بضحكات مديدة.
كان وداعي للمجموعة
حين صدر امر نقلي الى مقر وحدتنا في اربيل، مؤثرا وكئيبا، وما بين ذلك المشهد ومشهد
لقائي الاول بنزار وهاشم في ممر الطابق الثاني من الحامية الموحشة، يظل محفورا في الذاكرة،
مشهد الليلة الاولى في الحرب وتعليقاتنا ونقاشتنا الطويلة، وفيها كان مميزا ما قاله
(ابو هشوم) من ان "هذه حربا طويلة وستستمر حد وصول طرفيها الى الاعياء". مثلما تظل محفورة
ايضا الليلة التي كنت استعد فيها لجمع اشيائي الخاصة استعدادا لأول اجازة لي في الحرب،
ليلة لم انمها بدت بطول حياتي كلها.
|