صوت زهور حسين، حفر على خارطة الغناء العراقي، اثرا عميقا، كان له ان يتواصل شجنا والوانا في الاداء، لولا حادث السيارة الذي اودى بصاحبته الى مهاوي الصمت القاتل، وهي في الاربعين، وتحديدا في يوم 24/12/1964 قرب الحلة (بابل) وهي في طريقها الى زيارة زوجها السجين، كأنها في تلك النهاية تصل الى لحظة تراجيدية لطالما كانت اغنياتها منذورة لحزنها المديد.
زهور حسين، أو زهرة عبد الحسين، المولودة في الكاظمية ببغداد العام 1924 والتي لم يتهيأ لها دراسة الموسيقى او بعض الطرائق الغنائية، انما الموهبة التي صقلتها بالمران والمعرفة المكتسبة من تجربتي الغناء والحياة معا، كانت بدأت مشوارها في اجواء الغناء الشعبي على هامش المناسبات الاجتماعية النسوية، بينما كانت لحظة الحقيقة "الفنية" بالنسبة لها، هي الممثلة بميول زوج والدتها، المحب للموسيقى والمقتني لاسطوانات قرّاء المقام العراقي: نجم الشيخلي، رشيد القندرجي، و حسن خيوكة، و اهل الطرب العربي: فريد الاطرش، اسمهان و ام كلثوم. و هو من انتبه لاحقا لحلاوة صوتها، فشجّعها على الغناء، حتى وجدت طريقها لإذاعة بغداد، بعد ان استمع اليها الاخوان المؤسسان: صالح وداود الكويتي فانبهرا بصوتها وبحّته المميزة، وبإحساسها في أدائها لأغانيها، وعرضا عليها العمل في "ملهى الفارابي" يوم كانت "الملاهي" مسارا ثقافيا ليس بالضرورة قرينا بالرذائل. وفي عام 1944 ساعدها صالح الكويتي في أداء أولى حفلاتها الغنائية من دار الاذاعة العراقية، حين كانت حفلات للكثير من المطربات والمطربين تذاع على الهواء مباشرة ولساعة يوميا.
ولم يكن صعبا تميزها عن غيرها من المطربات، فهي "تغني بإحساس صادق مبتعدة عن النمطية و لا تتصنع في ادائها و لها قدرة كبيرة على الحفظ" بحسب ما اكده كثير ممن لحنوا لها.
هي من الورشة الفنية البارزة في الغناء العراقي المعاصر والتي ضمت اسماء: سليمة مراد، عفيفة اسكندر، نرجس شوقي، صديقة الملاية من المطربات، و حضيري ابو عزيز و داخل حسن من مطربي الريف، فضلا عن الملحنين عباس جميل، محمد نوشي، خضير الياس و رضا علي، و الشعراء: سبتي طاهر، جبوري النجار، سيف الدين الولائي،
عبد الكريم العلاف و اخرون .
اداء مقام "الدشت": سرور وشرور
لزهور حسين، رصيد من الاسطوانات في "شركة جقماقجي" البغدادية الرائدة في صناعة النغم المعاصر، بزّت فيه اصوات المطربين الرواد مثل حضيري ابو عزيز، وناصر حكيم في الغناء الريفي، ومحمد القبانجي ويوسف عمر من مؤدي "المقام العراقي، مثلما كما كان لها حضور قوي في اذاعة بغداد، فضلا عن امسيات الغناء الحي، حين كانت تغني في "ملهى أبي نؤاس" في "الباب الشرقي" ببغداد مجتذبة اسماع معجبين بصاحبة الصوت الذي صار اجمل من غنى "مقام الدشت" في اول اغنية لها و كان ذلك في "ملهى الفارابي" عام 1938 و مطلعها:
اذا أنت تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
وهناك من رآى انها "اختصت بقراءة مقام الدشت، وقد ابدعت فيه، وان الكثير من اغاني المطربة الكبيرة كانت ممنوعة لانها استخدمت كلمات فارسية، وهو أمر كان دارجا في اداء القديم من الالحان واداء القراءات الحسينية في الكاظمية، المنطقة التي تربت فيها و ترعرعت، وبخاصة استخدام مقام الدشت في هذه المناسبات، وكونها من "اصول فارسية" كانت تهمة، روجتها وسائل اعلام النظام السابق على الرغم من موتها المبكر".
ويرى الشاعر والصحافي زهير الدجيلي انه "وصل الاعجاب بغناء زهور حسين وبطريقة ادائها مقام "الدشت" في مقدمة أغانيها، وحين تدخل بعض المقاطع باللغة الفارسية مع العامية العراقية، حد أنها اصبحت مطربة العراق الأولى بعد سليمة مراد ومنيرة الهوزوز وزكية جورج وعفيفة اسكندر. ولم تعد مجالس الأنس والطرب في بغداد لدى العامة والخاصة منذ اربعينيات القرن حتى مطلع الستينات مكتملة، من دون حضور زهور حسين التي تلهب مشاعر الحضور حماسا وطربا ونشوة، وصارت مؤنسة المجالس بغنائها وخفة روحها وضحكتها التي تنطلق مع بحة صوتها وغنجها".
وقال عنها، الملحن الذي ارتبط بصعودها نجما غنائيا ساطعا، عباس جميل" :لحّنت لها أكثر من ثمانين أغنية، وقرأت في صوتها بحّة تسيل رقة وحناناً وشجى، تلامس بها أرق عواطف الانسان. حوربت كثيراً رحمها الله، من قبل بعضهن بمختلف الحجج والبعض الاخر من الفنانات حاولن منافستها في طورها فلم يلحقن بها ويلامسن جرفها، كانت متفردة رحمها الله وقد شكلنا معا ثنائيا كبيرا و كانت تربطني بها علاقة روحية حميمة، و هذا ما جعلني انسجم معها في اللحن الذي اقدمه لها و لا انسى انها بكت بكاء مرّا حينما غنت "غريبة من بعد عينج يا يمة"، اول مرة و كذلك في اغنية "جيت لاهل الهوى". لقد كانت رحمها الله تتفاعل مع اللحن والكلمة بشكل يمنحني القدرة على العطاء اكثر و هي مطربة كبيرة بكل المقاييس" .
ويرى الناقد الموسيقي والصحافي الراحل عبد الوهاب الشيخلي، انها " تمتلك حنجرة نادرة بين المطربات العراقيات والعربيات، حيث تمكنت خلال سنوات قلائل من الاستحواذ على اهتمام الكثير من المستمعين على اختلاف شرائحهم الاجتماعية. ولو تهيأ لزهور ما تهيأ لأسمهان من الملحنين، لكان لها شان آخر غير ما نحن فيه، ومع هذا فزهور لها تلك القامة الساحقة في ساحة الغناء".
ويشير المطرب والملحن الراحل رضا علي، الى ان "زهور حسين اجتهدت بحسب ثقافتها الشعبية، فكانت تغني بعفوية، اثناء ادائها الاطوار و"البستات" الشائعة، غير انها عندما بدأت تغني من الحان عباس جميل وألحاني، صارت تحسب لأهمية حفظ الكلمات وإتقان اللحن. مع ذلك ظلت بصمتها هي تلك البحّة والفطرة في الغناء، وسماعها في اي وقت، يبعث الطرب في النفس".
ومع هذا التغير الذي يشير اليه علي، الا ان الناقد الراحل عادل الهاشمي يصف صوت زهور حسين بقوله إن "معدن صوتها غير نفيس، إنما يغشاه في الغالب رخص يزداد بتقطيع صوت يميل إلى الابتذال وتنعدم فيه روح التعبيرية تمامًا". وهو بذلك يشير الى الطابع الفطري في غنائها، الذي لم تتهذب ملامحها حتى مع ما صاغه لصوتها، ملحنون خبروا الموسيقى المعاصرة واصولها السليمة.
ويعود للحديث عن "صاحبة الصوت الذي يختزن أحزان المراثي الحسينية ونبرة الشجن العراقية"، الملحن الذي ارتبط اسمه بها، الراحل عباس جميل فيقول "تعرفت إلى زهور حسين سنة 1942 في دار الإذاعة حيث قدّمت "مقام الدشت" وأغنية عراقية قديمة. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الملحنون في البحث عن ألحان يقدمونها لصوت زهور حسين القوي الذي يتمتع بأبعاد غنائية كبيرة. فقد استطاعت أن تشق طريقها بنجاح كمطربة على الصعيد الشعبي، وعلى المستوى الغنائي في الوطن العربي. وفي سنة 1984 كان لي لقاء آخر معها حيث لحنت لها أغنية "أخاف أحجي وعليّ الناس يكلون"، وفيها حوّلت الخط الغنائي الذي كانت تسير عليه زهور حسين، من الميزان الثقيل إلى السريع، لذلك وجدت لها شخصية متميزة لم ينافسها فيه سوى لميعة توفيق ووحيدة خليل، لأن الفنانتين كانتا تقدمان اللون الغنائي الريفي وهو الأقرب إلى لون زهور حسين. فتمكنت من أن أخلق نوعًا من المنافسة بين المطربات، وذلك عن طريق توزيع ألحاني على أكثر من صوت. وصوت زهور حسين تتخلله بحة محببة للقلوب، كانت تضيف إلى أذن المستمع الحنان والتعاطف. ومن أشهر الأغاني التي لحنتها لها "آني اللي أريد أحجي"، "غريبة من بعد عينج يا يمه"، "يم عيون حراقة"، "جيت لهل الهوى"، "هله وكل الهلة" وعشرات غيرها".
ويضيف الراحل جميل "أذكر أنها قبل وفاتها بساعات زارتني في المدرسة التي كنت أعمل فيها حتى أكون معها لزيارة زوجها في سجن المثنى، ولكن الظروف حالت دون ذهابي معها فسافرت هي وأختها وشقيق زوجها، وعلى طريق الحلة انقلبت السيارة فتوفيت أختها ونقلت هي إلى المستشفى، وبقيت غائبة عن الوعي قرابة عشرة أيام فارقت الحياة بعدها سنة 1964".