علي عبد الأمير*
حين كان المؤلف وقائد الأوركسترا الألماني جيمس لاست، يجوب أوروبا والعالم مقدماً النغم المعاصر والكلاسيكي في قالب احتفالي مدهش وحيوي، عماده الفرقة الموسيقية الكبيرة بآلاتها النحاسية ومنها الأبواق الجهيرة، فضلاً عن الآلات الإيقاعية والهوائيات، والغناء الكورالي أيضاً، كان مشاهدو القناة الثانية في «تلفزيون بغداد»، وتحديداً في الفترة ما بين 1975 و1980، يربحون من ذلك الألماني الوسيم أوقاتاً رقيقة، تتواصل مرات كثيرة لنحو ساعتين، في تسجيل كامل لحفلاته التي كانت تعرض بالتبادل مع موسيقى نظيره الفرنسي بول موريا.
ولأن العراق لم يكن قد دخل بعد أجواء الحظر والريبة من كل ما هو غربي، ولم تكن هناك لائحة ممنوعات ثقافية طويلة، فكانت الأنغام التي يبثها الألماني لاست فسحة رقيقة خصوصاً للطبقة المتوسطة وأجيالها الشابة المتعلمة، الأقرب إلى تذوق الفنون ومنها الموسيقى الرفيعة، حتى أن كثيرين كانوا يشعرون بالامتنان لإدارة «مثقفة» للتلفزيون كانت تنقل تلك الحفلات الموسيقية، وتجعلهم ينتقلون من مباهج إيقاع الفالس وألحان الأغنيات الأكثر شهرة تلك الأيام ومنها للرباعي السويدي «آبا»، إلى حيوية ألحان الجاز والسول الأميركية، مروراً بكثير من المقطوعات الكلاسيكية الألمانية وحتى التي وضعها لاست نفسه وصارت دالة على نمــطه الموسيقي الخاص.
ومع رحيل جيمس هانس لاست عن 86 سنة في فلوريدا الأميركية، تكون الأوقات البغدادية الجميلة النادرة، قد خسرت أحد أبطالها الروحيين «الغرباء»، فهي قد خسرت من قبل فترة قليلة، اليوناني ديميس روسوس الذي غنى فيها العام 1975 في عز أيام شهرته، وغنى فيها لاحقاً وتحديداً في العام 1979، الفريقان «ايربشن» مع شهيرته «وان واي تيكت» و «غيبسون براذورز» مع رائعته «كوبا».
أغلفة اسطوانات جيمس لاست التي كانت تزين واجهات غالبية محال تسجيل الموسيقى في وسط بغداد، بالتزامن مع حفلاته التلفزيونية، ما لبثت أن انتقلت لاحقاً إلى صالونات الحلاقة الرجالية على شكل بوسترات كبيرة، طمعاً بالحصول على رجال يرغبون في قصة شعر تماثل تسريحة من كان يرونق المساءات بالكثير من النغم الجميل.
واحد من اغلفة اسطوانات جيمس لاست التي كانت تعرضها محال الموسيقى ببغداد
يرحل الموسيقي وقائد الأوركسترا الألماني، فيما بغداد تبدو اليوم محاصرة بإيقاع «غرباء» جدد ومن كل نوع، لكنهم لا يحملون لها الأنغام ولا حلم الموسيقى الجميل، بل عواصف الخوف والرعب والقتل، ضمن موجات التشدد السياسي والاجتماعي والديني.
درس لاست العزف في معهد الموسيقى هيريس في مدينة فرانكفورت. في سن الرابعة عشرة، انضمّ إلى المدرسة العسكرية لتعليم الموسيقى في بوكيبورغ. بعد الحرب العالمية الثانية، انضمّ إلى أوركسترا إذاعة بريمن للرقص، بين عامي 1946 و1948. أصبح بعدها قائداً لإحدى الفرق لمدة 7 سنوات، وفاز بجائزة أفضل عازف بايس في ألمانيا لثلاثة أعوام على التوالي، بين 1950 و1952، وبعد انفصال هذه الفرقة عمل لاست ملحناً وموزعاً موسيقياً لعدد كبير من الإذاعات الأوروبية.
في 1964، أصدر أول ألبوم له بعنوان «American Patrol»، وكان من إنتاج شركة «وارنر براذرز». شارك لاست في أعمال ناجحة مع عدد من الموسيقيين المشهورين مثل ريشار كلايدرمان، كما قدّم أعمالاً مهمة لأشهر الفرق الفنية مثل «آبا» السويدية. أنتج بين عامي 1967 و1986، 52 ألبوماً. وحاز العديد من الجوائز خلال مسيرته الفنية.
* نشرت في "الحياة" 12-6-2015 وبحسب الرابط التالي:
|