وعبد الحليم حافظ كان يأتي اغنياته من باب الوجل والقلق والخوف احيانا، من اجل ان تظل تلك الاغنيات مختلفة، وكان يولي امرها عناية فائقة: يتدرب كثيرا، يعيد، يدقق ليطلع بنتيجة تظل دائما تسجل علامات مختلفة على ماسبق من اغنيات. كان يحترم جمهوره وفنه، يعايش المفاهيم المولدة للتغيير، من هنا بدات مواظبته تيار الوعي الاجتماعي الذي تصاعد بعد تموز يوليو 1952 ، وسجلت اغنياته التي صاغها بكلام نادر الشاعر صلاح جاهين، قراءة واعية لفكر تلك المرحلة التي شهدت " قطيعة" اجتماعية وسياسية على الاغلب مع ايقاع الحياة مصريا وعربيا . وهذه المهمة لم تجد طريقها في اغنيات عبد الحليم بطريقة التسجيل المباشر والتقريري الفج للفكرة، بل صياغتها فنيا والعناية بصورة انسان تلك المرحلة وانفتاح الاغنية امام تيار تصويري للعوامل الفاعلة في تغيير المجتمع. ان اغنيات مثل "السد العالي"، "صورة" وغيرها، اغنيات "وطنية" حسب التسمية الشائعة لكنها اغنيات مختلفة، تعنى بفكرة الانسان وبيئته، احلامه وعاطفته الشخصية ايضا. بذلك اضاف عبد الحليم انجازا لم يكن قد تحقق من قبل في الاغنية العربية ، الا وهو صوغ اغنيات تتفوق على محدودية مفهوم الاغنية العاطفية.
يمكن للناقد والمتابع لمسار اغنية عبد الحليم حافظ ان يجد ثلاث مراحل تميزها. الاولى تبدأ من اغنية "صافيني مرة" و"عشانك ياقمر" وصولا الى اغنيات فيلمه "الخطايا-1962" ، وفيها الشفافية والرقة الصافية لحنيا ومفردة غنائية وطريقة في الاداء. فعبد الحليم دخل الموسيقى العربية وهي تحث الخطى نحو بناء علمي راسخ تتكون على أساسه، وحين برز وهو لم يزل شابا، فذلك جاء إعتمادا على ما اظهره من دراية ومعرفة باساسيات الموسيقى كعلم ودراسة صرفة، اضافة الى موهبته ، وروحه الرقيقة التي سكبها في صوته، روحه التي كانت نشطه في تحويل المشاعر الى اغنيات، وصوغ الواقع بطريقة أقرب الى الاحلام، ولكنها أحلام لها نكهة محسوسة، اغنياته الاولى سكب فيها هوى الشاب القادم من ارض المعاناة: الريف والحرمانات والالم، فبدت تلك الاغنيات وكانها انفعالات تحاول التعويض عن ذلك الالم، بامتلاك سعادة تمتد بين اغنية واخرى.
الارجح انها "رومانسية" تحاول ان تحلق بعيدا عن الوقائع العصيبة لذلك الولد الريفي، الذي طبع جسده بعلامة راسخة من تلك الايام ( اصيب عبد الحليم بالبلهاريسيا القاتلة منذ مطلع حياته). أغنيات المرحلة الاولى هي لوحات صافية عن محبة تتفوق على الواقع، بكونها أمنيات للقفز من درجات السلم السفلي للحياة، والموسيقى في تلك الأغنيات مصاغة بطريقة تحفظ للكلام رقته. هنا لايمكن للمتابع الا ان يتذكر نموذجا لاغنية محبة رفيعة المستوى، كالذي تقدمه "انا لك على طول".
ومالبثت ان انفتحت هذه المرحلة على مرحلة ثانية فيها تنويعات لحنية واختيارات جريئة لعبد الحليم في الموضوعات والقوالب الغنائية، وتميزت اغنيات مثل:"جبار"، "لاتكذبي"، و "بلاش عتاب" بنضج موسيقي قادر الى تجريب وانتقال من لحن الى اخر ومن جو الى اخر فهناك اغنيات مثل:"اعز الناس"، "ضي القناديل"،"الويل..الويل"، و "سواح". وكشفت أغنيات هذه المرحلة ايضا عن قدرة عبد الحليم في نقل شكل الاغنية العاطفية التي رسمتها اغنياته الاولى الى اشكال اخرى تقبل المغايرة والتلون مع ذائقة عصرها، دون الهبوط عن المستوى الذي حققته في الجودة. اغنيات المرحلة الثانية لعبد الحليم حسبها بعض النقاد هبوطا في فنيته ومستواه المعهود ، ولكنها من ناحية اخرى انتقاله لذلك المستوى الى فضاء تعبيري اخر، ومن يتابع اغنيات اخر هذه المرحلة "جانا الهوى" واغنيات مثل "احضان الحبايب" و"ياخلي القلب" يجد ان عناية الاغنيات بموضوعة العاطفة والتعبير عنها اخذت منحى جديدا، لا علاقة له "بالهبوط" في المستوى كما اشارت بعض الاراء والمقالات النقدية التي تناولت تلك المرحلة من الانتاج الغنائي لعبد الحليم حافظ.
والمنحى المختلف في اغنيات المرحلة الثانية كان متوافقا مع المنحى الذي شكلته هزيمة حزيران 1967، فالبناء "العميق" فكرا وتجربة اجتماعية ميزت الفترة من منتصف خمسنيات القرن الماضي حتى منتصف ستينياته كشف لاحقا عن " هشاشة" توجها انهيار البناء الذي انتج اعتدادا روحيا وفكريا في " صورة" هي في حقيقتها صورة متخيلة عن " مجتمع عامل" وليست صورة الواقع الحقيقية.
اما المرحلة الثالثة التي عاشها ذلك النتاج، فتمثل في اغنيات طويلة ابتدات من "زي الهوى" انتهاء باخر اغنية له "قارئة الفنجان". وتميزت اغنيات هذه المرحلة باحادية التعبير رغم البناء الموسيقي المطول، فكلمات عبد الوهاب محمد بدت عادية مثلما هي ايضا كلمات محمد حمزة، بينما كانت الحان بليغ حمدي مياله الى الاستعراض عبر الاستعانة بالات موسيقية كهربائية غربية في الاوركسترا ومنحها حيزا كبيرا مثل الات:"الاورغ" و"الغيتار" تمثل في عزفها مقاطع مطولة او اجزاء كبيرة من تلك المقدمات الموسيقية التي عزفت بها اغنيات مثل "موعود"،"زي الهوى"و"حاول تفتكرني".
ولم يكن الأمر بعيدا عن هذا التعيين كما في اغنيات وضعها لحنيا محمد عبد الوهاب مثل"نبتدي منين الحكاية" و"فاتت جنبنا"، وهو كذلك عند الحان محمد الموجي لاغنيات عبد الحليم خلال فترة الاغنيات الطويلة كما في "رسالة من تحت الماء" و "قارئة الفنجان" عدا لحنه الذي جاء في قالب الموشح وحملته اغنية "يا مالكا قلبي".
غير ان عبد الحليم حافظ طبع بلمسات روحه التي لاتكل عن تحقيق صياغة مرهفة لمشاهر العاطفة، كل تلك الاغنيات، فينتهي عندها شوق المحبين في السبعينات وتتصاعد معها آهات مراهقين كانت تتفتح مشاعرهم على طرقات ناعمة من صوته. بل ان احدى اغنيات تلك المرحلة مازالت معتمدة لطرد الاحزان عند كل من يزور قبر عبد الحليم حافظ، ففيه جو احتفالي خاص، فبالقرب من شاهدة القبر، تشتغل مكبرات الصوت ليصدح منها صوت عبد الحليم يغني:"اي دمعة حزن لا" التي اختارها شبان كونوا "رابطة عشاق صوت العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ" وفيها يدعون الى وضع الحزن جانبا، على الرغم مما يثيره المكان والقبر من إحساس، فعبد الحليم حسبما يقول أصدقاؤه: "مات ولكنه يحيا في داخل الاف النفوس التي احبته وبادلته المودة"، وعبد الحليم يغني حول قبره ليس عبر جهاز الصوت حسب، بل انه يغني من خلال الرفقة التي تتجدد بينه وبين موجات متعاقبة من الزوار.
كان عبد الحليم حافظ يزداد عذوبة كلما إزداد ألمه وإزداد نزفه. وصوره التي تكشف عن جسده الذاوي في فراش المرض، نقرأها الان بطريقة مختلفه لنجد روحيته تزداد قوة وتألقا، فكان يجد في مرضه فرصة لتحويل كل مافيه الى عناصر طيبة في اغنياته حتى وان كلفته الكثير من الجهد والعناء والتعب، وكان يزداد إنفعالا حد ان يذهب مباشرة من المسرح الى فراشة ليتلوى ألما ويعض على شفتيه ليغالب نزفه.
قرية الحلوات : متحف " العندليب" المنهوب
واذا كان كتاب " اعز الناس" للمحامي والمنتج مجدي العمروسي وثيقة ورقية حميمة جاءت تحية رقيقة وصادقة للراحل حافظ وتاثيره الفني والانساني ، فان ثمة فيلما وثائقيا اجنبيا كان وثيقة صورية لافتة في قدرتها على اضاءة بعض جوانب الحياة الشخصية والفنية لصاحب " بلاش عتاب" اعتماداً على لقاءات مع فنانين عاصروه او عملوا معه ، فضلا عن لقاءات مع اشقاء الراحل ومعارف واهل مكان عاشوا بدايات عمره، وعرفوه عن قرب شابا يحث الخطى نحو احلام تداعبه.
فضيلة الفيلم الاساسية تكمن في التركيز على روحية عبد الحليم، التي انتجت لاحقاً نمطاً من الاغنيات التي طبعت برومانسيتها مشاعر اجيال عديدة امتدت من الخمسينات حتى نهاية القرن الماضي ، حين انحسرالإقبال على اغنياته وبدا إقتناء اسطوانته اقرب الى استعادة نوستالجية لاجيال كان الراحل أحد المؤثرين في روحيتها وعواطفها.•
مشاهد الفيلم يتعرف على المكان الذي عاش فيه عبد الحليم حافظ: قرية الحلوات، ومنها ابتلى بالبلهارسيا الذي اصاب كثيرين من أهل الريف المصري . ذلك المكان غدا مهجوراً وموحشاً، فيما الملايين التي تركها الفنان الراحل لواريثيه كافية وببعض المساندة من الاجهزة الرسمية لتحويل المكان متحفا يضم متقنيات الراحل، واعماله ونوتات اغنياته وملاحظاته عليها ورسائله وعقوده وحتى ثيابه، فتأثيره في مصر والعالم العربي يستحق كل هذا الاهتمام، مثلما لاقى مغنون وفنانون شعبيون اهتماما يرقى الى تخليد ذكراهم على امتداد مناطق عدة في العالم ، خذ "متحف الفس برسلي" في اميركا مثلا.
وفي حين طبع عبد الحليم بصماته بقوة في سيرة الغناء العربي المعاصر، فان ملامحه كان لافتة في حضورها عبر شاشة السينما ، وفي الفيلم الوثائقي تبدي الممثلة الراحلة مديحة يسري انفعالات رقيقة وصادقة حين تروي حكايات عن معرفتها بعبد الحليم وعملها معه في فيلم "الخطايا"، مثلما تتحدث النجمة نادية لطفي عن دوريها مع الراحل في فيلمي "الخطايا" و"ابي فوق الشجرة"، فيما انصب حديث المخرج عاطف سالم على ظروف فيلمه الناجح لعبد الحليم "يوم من عمري" والذي تضمن واحدة من اجمل اغنيات الفنان الراحل التي حملت عنوان الفيلم ذاته.
في الفيلم استخدام موفق لفكرة القدرية التي اطاحت بكثير من احلام الراحل الاسمر، عبر لقطات من سرير عبد الحليم الموحش وصوته مغنيا "لست ادري"، او تلك اللقطات لانفعالات صاحب الجسد الواهن ونوبات المرض اثناء البروفات او الغناء، وهي لقطات مأخوذة اصلاً عن فيلم اخرجه يوسف شاهين عن عبد الحليم لكنه ظل معنيا بالاطار الخارجي للمطرب الظاهرة دون الوصول الى جوهره الروحي .
في الفيلم الوثائقي المنتج لصالح قناة بريطانية لمسات لم يستطع صوغها صاحب فيلم " المصير" حين اخرج فيلمه عن عبد الحليم، ومن تلك اللمسات حكايات رواها موسيقيون خبروا الراحل عن قرب، مثل عازف الساكسفون سمير سرور الذي طالما وقّع على الته انغاما بصحبة " الفرقة الماسية" وهي الاوركسترا التي قادها الراحل احمد فؤاد حسن ورافقت حافظ في سنواته العشرة الاخيرة. لمسة سرور كانت طريفة وذكية وجوابا عن سؤال: من هو عبد الحليم عند سمير سرور؟ وقف العازف مثلما كان يفعل حين يعزف فواصله الانفرادية مع " الماسية" ليؤدي اللحن الاساس في اغنية" جانا الهوى".
في استعادات سنوية كثيرة لذكرى الراحل لم يجرؤ تلفزيون مصري او عربي على صوغ فيلم بربع مواصفات الفيلم الاجنبي ، بينما يسهب متحدثون وكتاب وموسيقيون في احاديث لا جديد مؤثرا فيها عن صاحب " موعود" ،فتبدو الذكرى استعادة "خافتة" لضوء روحي جاء في سيرة اغنية.
عبد الحليم حافظ، الانسان والمغني رسم صورة شفافة عن اجيال كانت تتطلع لتشغل مكانا مميزا في مجتمعها، واغنياته التي رافقت احلاما مصرية وعربية ، كبرت معه وازدادت غضبا مع الفترات الحرجة التي عاشتها وما اكثرها. كل ذلك رسم له مكانة من العسير تجاوزها، وهو النائم مازال يوقظ احلامنا، ومشهد الملايين التي ودعته الى مثواه الاخير كان مميزا ومسيرات الحزن التي خيمت بعد وفاته على المشاعر العربية من أقصى الوطن العربي الى اقصاه، كانت تمجد الفكرة التي اعلنها عبد الحليم حافظ في اغنياته: الاحتفاظ بالمعاني النبيلة للانسان وزجها في مختلف فترات حياته كونها رصيده النهائي.
غربة الحالم في بلاده " الواقعية"
ليس غريبا ان يصبح حالم ومستغرق في "اوهامه" الموسيقية والعاطفية مثل عبد الحليم حافظ محط نقد عنيف، وان يلحق قسرا بالمرحلة السياسية التي عايشها الراحل وكان من ملامحها الثقافية، ومثلما نالت "الناصرية" نصيبها من المراجعة الموضوعية احيانا والنقد القاسي احيانا كثيرة، نال حافظ نصيبا من الهجمات اللاذعة التي لم تتردد في وصفه " بوق الناصرية" وجعله مسؤولا عن اشاعة وهم وجداني عن " قوة" البلاد ليس اقل من مسؤولية " الزعيم الخالد" وجنرالاته عن الهزيمة!
الشق الاخير من نقد المرحلة يقارب الهزيمة من منظور صعود الحكم الفردي القائم على قوة "باطشة" داخليا ، و"خاوية" حد الخذلان خارجيا ، ويشير الى ان مصر عادت الى " الواقعية" السياسية والفكرية بعد حرب اكتوبر 1973 واقرار السلام مع اسرائيل ، غير ان فحص تلك "الواقعية" يؤكد ان الاساس الثيوقراطي للدولة المصرية لم يتغير كثيرا في جوهره وان كان حقق خطى مهمة في مجال حريات التعبير وحقوق الانسان. وفي حين قدمت المرحلة " غير الواقعية" تجارب ثقافية لافتة وفي الموسيقى تحديدا ، تجارب اعتمدت المواهب الاصيلة والمعرفة المتحصلة بالدأب والمثابرة، فان"المرحلة الواقعية" قدمت رهطا من الأميين الذين تسيدوا المشهد الموسيقي المصري لجهة تأثيرهم في الوجدان الشعبي، ومن لم يتحصل على موهبة لافتة من موسيقي مصر ومطربيها كان يعوضها بالمعرفة والتحصيل العلمي، وتلك ميزة " المرحلة الواهمة" ،بينما نجد المطرب " الشعبي" الامي ليس لغياب تحصيله العلمي وحسب، بل لتدني ذائقته، نجده وقد اصبح رمزا " واقعيا" اصدق من الموهوب موسيقيا والمهذب روحيا والذي انتجته المرحلة " غير الواقعية".
هذه المقاربة نجدها في قول للمطرب والمؤلف الموسيقي محمد نوح في نقده ظاهرة عبد الحليم حافظ ، فصاحب موسيقى فيلم "المهاجر" للمخرج يوسف شاهين، يعتبر عبدالحليم ومجايليه "كاذبين" ورموز مرحلة الوهم السياسي والاجتماعي ايام صعود الناصرية.
قد يكون حافظ ومجايلوه نتاجا طبيعيا للمرحلة " غير الواقعية" ، وقد تكون مغناة "وطني الأكبر" تعبيرا وهميا عن " وطن عربي واحد" ، غير ان مراجعة للبناء الفني في موسيقى تلك المرحلة واغنياتها تكشف غنى تعبيريا يكتسح ،مع انه " وهم" ،الاثر الغنائي للمرحلة " الواقعية"، حتى ليبدو غير الواقعي و" الوهمي" اكثر حضورا وتاثيرا من " الواقعي ".
مات عبد الحليم ولكن ثمة قلوب تتحسسه ،لينهض قريبا منها ، شفافا ولطيفا، بل كثير الاناقة في عالم "واقعي" يعتريه القبح الشديد..
عبد الحليم : سبعة اقدام تحت التراب لكنه لازال يغني..