دفاعا عن الموسيقى العربية: الطابع الغنائي هوية وليس ملمحا لـ"التخلف"
تاريخ النشر
28/01/2015 06:00 AM
علي عبد الامير* ان من حق موسيقيين عرب ممن كتبوا الانغام ووضعوها وفق الاشكال " الكلاسيكية" الغربية ان يعتبروا بيتهوفن او باخ وكل النتاج الموسيقي الاوروبي، قياسا خاصا بهم يقرأوا وفقه الموسيقى وما غيرها من الانغام، ولكن ليس من حقهم النظر باستهجان للموسيقى العربية، حين يرون في نتاج محمد عبد الوهاب والرحابنة وغيرهم ممن تركوا علامات عميقة ومؤثرة في النغم العربي خلال القرن الفائت، نتاجا اقل شأنا. فهم حين يقارنون بين مضمونين موسيقيين مختلفين تماما: موسيقى النهضة الاوروبية وصولا الى القرن العشرين ذو بناء آلي صرف، فيما الموسيقى العربية غنائية البناء، والصوت الانساني جوهرها والبناء الموسيقي الآلي فيها يأتي تاليا، انما يرون فيه في مضمون الموسيقى العربية "عيبا"، وهو امر يصر عليه احد اعلام الموسيقى الغربية "الكلاسيكية" من الفنانين العرب، المؤلف وقائد الاوركسترا اللبنانية وليد غلمية، بوصفها هنا ممثلا لاتجاه يرى في الموسيقى العربية "نتاجا متخلفا" اذا ما قورن بالنموذج " المتطور" الوحيد القائم على المعرفة والمعرفة: الموسيقى الغربية "الكلاسيكية". وفي حين يعتبر غلمية ومريدوه ممن يرون في الموسيقى العربية ملمحا "متخلفا" انه " إذ ليس في شرقنا العربي مثل هؤلاء الموسيقيين(بيتهوفن او باخ) لأن العمل الذي ابدع فيه العرب هو بسيط جدا يصلح للاغنية الشعبية"، فانهم يقصدون الطابع الغنائي الذي يعتبر امتياز الموسيقى العربية. لكن ما يفوت اصحاب رأي كهذا، اننا لو اعتبرنا قياس البنية الآلية الموسيقية المجردة، قياسا للتطور، فستكون الموسيقى الايطالية "متخلفة" مثل موسيقانا لانها وجدت شخصيتها في الاوبرا، وهي شكل موسيقي يعتمد الصوت الانساني وتقابلاته الوجدانية وتدرجاته المقامية، كما ان الطليان لم ينجزوا ما يعتبره المولعون بالنموذج الغربي " الكلاسيكي" مثالا، ألا وهو السيمفونية. ان القول "ثمة شعوب فرضت بيتهوفن وتشايكوفسكي وباخ على الزمن، اما العرب فلم يفرضوا اسماء على الزمن لان كل ما لديهم مادة استهلاكية" ليبدو تسطيحا للعقل والمعرفة وتراكم التجربة الانسانية في اي مجتمع، فتجارب اولئك الموسيقيين كانت استجابة لظروف مجتمعاتهم وانعكاسا طبيعيا لتطلعاته في التحديث، وليس مصادفة ان تكون اعمالهم متزامنة مع عصور النهضة والحداثة في اوروبا، ومن الطبيعي ان لا تظهر تجارب كهذه عربيا، لاختلاف الظروف الاجتماعية وتباين القيم الثقافية والاجتماعية الاساسية. كما ان "فرض الاسماء على الزمن" ليس معتمدا على النتاج الثقافي وحده والعبقرية الفردية، بل هو مؤشر سوسيولوجي معتمد على حقائق سياسية واجتماعية، ففي حين نهض اولئك كانت مجتمعاتهم معافاة قوية، وهي الاكبر في حركة الاحداث في اوربا والعالم، وكان العرب حينها اسرى سيطرة قوى التخلف والظلام، فمن اين لهم بمعرفة ومن اين لهم بنتاج روحي؟ وحتى لو توفر ذلك بعوامل ذاتية تعاند الحقائق العلمية، فمن اين لهم بالقوة الاجتماعية والسياسية التي تقدم معرفتهم و " تفرضها على الزمن" ؟ كما ان عجز العرب عن فرض اعمال موسيقية كما فرض الاوروبيون بيتهوفن وتشايكوفسكي وباخ على الزمن، هو امر ليس حكرا على العرب، فثقافات كبيرة في العالم لم تنتج بيتهوفن وتشايكوفسكي وباخ، وهي لم تعتبر ذلك عيبا او انتقاصا، كما في تجارب ثقافات الصين واليابان والهند مثلا، والتي لم تعتبر اعتماد موسيقاها " السلم الخماسي" ملمحا ادنى درجة من " السلم السباعي" كما هو متداول غربيا وعربيا ايضا. ان اعمالا في الموسيقى العربية وبالذات تلك التي رافقت مسيرة التحديث في المجتمعات العربية خلال النصف الاول من القرن الماضي، تنفي القول بان" العمل الذي ابدع فيه العرب هو بسيط جدا يصلح للاغنية الشعبية"، فثمة انجاز لافت حققه عبد الوهاب والسنباطي والرحابنة في بناء موسيقي محكم وسم الحانهم ضمن قالب "الغناء المتقن"، وهو قالب غناء قصائد مثل "كليوباترا"، "الجندول" و "النهر الخالد"، مثلما انجز الرحابنة ( عاصي ومنصور) "اندلسيات" راقية حاكت الاثر الموسيقي العربي القديم، ونحوا بالقالب الى اتجاهات تجديدية في عشرات القصائد التي صاغت صورا مدهشة لمدن عربية ومآثر تاريخ وافكار.
و في حين "تتكرم" اراء "المتغربين" من الموسيقيين العرب، فتعتبر محمد عبد الوهاب "اهم المبادرين لكنه ليس موسيقارا" فانها تقع في تناقض فاضح حتى مع التعريف الذي وضعته لوصف "الموسيقار"، وهو بحسب تلك الاراء "من يكتب الموسيقى ويقرأها"، والثابت ان صاحب "الجندول" يجيد الصفتين اللازمتين لمنح لقب "الموسيقار" ناهيك عن ابداعه الذي حول اللقب من وصف اكاديمي الى تسمية لاعمال ترقى بالعقل والروح وتسمو بالذائقة، وهنا لا عذر لمنتقدي الموسيقى العربية في حجب التسمية عن عبد الوهاب، اللهم الا اذا كان الامر يبدو اصرارا على النظر الى الموسيقى العربية، نظرة دونية.
من يسمع الموسيقى "الكلاسيكية"؟ ان اعتبار الموسيقى " الكلاسيكية" الاوروبية مقياسا للتطور والانجاز الحضاري، هو قياس اصم ومعزول عن الحراك الاجتماعي والفكري والثقافي حتى في البلدان والمجتمعات التي انتجت تلك الاعمال الموسيقية والالحان الكبرى، فثمة اسئلة جدية تثار في الغرب ومنذ عقود، حول من يسمع اليوم الاعمال الموسيقية " الكلاسيكية"؟ وعلى الرغم من برامج التربية والثقافة الواسعة في دول ومجتمعات متقدمة فان تلك الاعمال تظل في حدود "نخبوية" حتى وان برعت المدن والعواصم في اقامة مهرجانات متواصلة على مدى العام للعناية بهذا الشكل الموسيقي، بينما نجد الموسيقى " الغنائية" الشعبية هي الاكثر حضورا بل هي تكاد تكتسح الذائقة الغربية ومنذ اكثر من نصف قرن، وحيال ذلك "صعود الغناء الشعبي" في المجتمعات "المتطورة" لم نجد قراءة نقدية وثقافية جادة تعتبر تراجع الموسيقى " الكلاسيكية" امام " الموسيقى الشعبية" في الغرب مؤشرا على هشاشة ثقافية، كما يصر على ذلك " المتغربون" من الموسيقيين العرب، الذين فاتهم ان الظروف والقيم الثقافية والاجتماعية لاي مرحلة تنتج اشكالا في التعبير خاصة بها، فحين كانت "موسيقى الجاز" اوائل القرن الماضي تقرا على انها "شعبية" اذا ما قورنت بالموسيقى "الكلاسيكية"، فانها لاحقا اعتبرت من العلامات الرصينة للموسيقى في القرن العشرين، مثلما اعتبرت تجارب " موسيقى العصر الحديث" في بدايات ظهورها "استهلاكية" فيما هي اليوم تستقطب جمهورا اكبر بكثير من جمهور الموسيقى " الكلاسيكية". ان الموسيقيين العرب " المتغربين" ممن يحملون على الموسيقى المعاصرة، حتى التي ينتجها الغرب، يفوتهم ان المجتمعات التي انتجت اعمالا موسيقية "خالدة" و"فرضت على الزمن" هي ذاتها التي انتجت ما توصف بانها "موسيقى ساذجة وبسيطة ويغلب الايقاع فيها في شكل صارخ، وهي موسيقى مخدرات وخيانة للانسان فكريا وسمعيا وثقافيا، خصوصا عندما رافقت التقنيات الاليكترونية الاصوات" فيما لا تقرأ دراسات " النقد الثقافي" الغربية الامر على هذا النحو وتعتبر الموسيقى المعاصرة مرآة للتحولات الثقافية والاجتماعية في بلدانها. " كلاسيك" النغم العربي وحداثته ولو قرأنا المشهد الموسيقي العربي لجهة التاليف وفق القالب " الكلاسيكي" الغربي، فاننا نتوقف عند تجارب لافتة حين حاولت "تأصيل" الشكل لجهة كتابة الشكل الغربي وفق روحية نغمية عربية وشرقية، وهي حين عجزت عن الحضور على ناطاق عالمي واسع، فهو عائد ليس لقصور فيها، بل لازمات عسر الاتصال مع الاخر والفجوة الثقافية، التي ما ان خفت في الالفية الثالثة حتى امكننا التعرف على تجارب موسيقية عربية ذهبت الى شكل الموسيقى " الصرفة" او الالية غير الغنائية، وتمكنت من التأثير في متلقين هم من مجتمعات غربية، اذ استعارت شكلا موسيقيا قريبا لذائقتهم لكنه تضمن روحية جديدة عليهم، وهو ما كان سر نجاحها، وهو ملمح يمكن التعرف عليها عبر اعمال لائحة من الموسيقيين العرب الذي قدر انفتاحهم على الشكل الاوروبي " الكلاسيكي" كانوا اوفياء لروحيتهم الموسيقية والثقافية، وهي لائحة لا تبدأ من اعمال الراحل توفيق الباشا مثلما لا تنتهي باعمال محمد عثمان صديق. كما ان الانفتاح الثقافي الذي يميز عصرنا اليوم جعل من اشكال مبتكرة لموسيقيين عرب قائمة على المزج بين شكل غربي من اشكال الموسيقى الصرفة والمضمون الذي تحمله الموسيقى العربية امرا ممكنا، فثمة من برع بوضع " كونشرتو العود والاوركسترا" او "الناي والاوركسترا" وكذلك "القانون والاوركسترا" وهو ما يحسب لاعمال صاغها موسيقيون عرب كما في اعمال لمارسيل خليفة ونصير شمة وخالد محمد علي، فيما اخذ التحديث الموسيقي بعدا اكبر لجهة العلاقة الغنية القائمة على الحوار الثقافي وليس مجرد التأثير القائم على تقديس الشكل الغربي، كما في اعمال زياد رحباني، عمر خيرت، طارق الناصر، وليد الهشيم، فرات قدوري، رحيم الحاج، شربل روحانا وغيرهم. * نشرت في الملحق الثقافي لصحيفة "الغد" الاردنية 2009