كاظم الساهر يغني الحب .. في سنوات الحروب والحصار والمنفى(4)

تاريخ النشر       29/12/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير*





الساهر في " انا وليلى": حين تمسي الحكايات نشيدا للقلوب المعذبة

مع ان فوز أغنية المطرب والملحن العراقي كاظم الساهر " انا وليلى " كسادس أفضل أغنية في العالم بحسب إختيار هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في العام 2001، قوبل من مبدعها بفرح ممزوج بالمفاجأة، إلا انها تظل كعمل موسيقي تستحق مثل هذا التقدير الذي جاء أصلا من خلال دعم المشاركين العرب في الإستفتاء الذين إحتكموا بالتأكيد الى إغنية يمكن لها ان تكون قريبة الى مشاعرهم وتفخر بها الموسيقى العربية المعاصرة في الوقت ذاته. هنا سنتوقف عند الدلالات الفنية للحدث، ونظهر بعض الجوانب الموسيقية والإدائية التي برع الساهر في صوغها ضمن عمل مستمد من شجن عراقي غني بايحاءاته الوجدانية والإنسانية.
في قصيدة "أنا وليلى" التي كتبها  الشاعر  حسن المرواني ( عرفت القصيدة اواخر سبعينات القرن الفائت على المستوى الجامعي في بغداد حين كتبها المرواني شاكيا حبيبته القاسية)، يأتي  الساهر بأثر قوي واصيل مستمد من  غناء القصيدة، ذلك القالب الذي ظل تحدياً ليس للمغنين فحسب بل لغالبية ملحني الاغنية العربية على إختلاف فتراتها، وصادف وجود قصيدة أخرى في الإسطوانة ذاتها التي حملت عنوان " أنا وليلى " ولكن من قالب شعري مختلف، فقصيدة نزار قباني "الا انت" ببهجتها وعواطفها المحلقة إحتاجت من الساهر إيقاعاً سريعاً لمواكبة تفصيلاتها.
ومع قصيدة "انا وليلى" تجاوز الساهر ما علق بعمله مع قصيدة نزار قباني من عثرات، لحنياً وادائياً، فمال اللحن الى هدوء تعبيري لافت وتعمقت في صوت الساهر، تهدجات شجن تبعثه مقاطع شعرية مثل: "ماتت في محراب عينك ابتهالاتي" و "جئت ابحث في عينك عن ذاتي"، وهذه الإشارات العميقة في الصورة الشعرية وفي تدفق مشاعرها، توفرت على عناية لحنية، تعلي كل هذا الشجن: "جفت على بابك الموصود أزمنتي.. ليلى وما أثمرت شيئاً نداءاتي"، فثمة تمهيدات من البيانو وتنويعات من الكمانات وتوقيعات أصيلة من الرق، وإذ يصل الساهر الى "ممزق أنا ..لاجاه ولا ترف يغريك فيّ فخليني  بآهاتي"، يأتي اللحن بتعبيرية وتصويرية تقارب المشاعر التي تتضمنها الكلمات وتفصح عنها، وساهمت فصاحة صوت الساهر وطلاقته بتعميق الإتصال ما بين لحنة والنص الشعري.
اللحن مال  عموما في "أنا وليلى" الى التوقيع الهادئ وكانت اللمحة البطيئة في اللحن مناسبة لتجسيد مشاعر من نوع: "نفيت وأستوطن الغرباء في بلدي ودمروا كل أشيائي الحبيبات"، وهنا يستخدم الساهر تقنية ذكية فمع مقطع "واغربتاه"، يستخدم "الصوت الثاني" أو ما يعرف إصطلاحاً بـ  Second Voice ليمزج  معها بالعراقية الدارجة: "يا ويلي"، ليصبح هنا متموضعاً في حيز مكاني  عراقي ما منح المشاعر المتدفقة في القصيدة، صدقية وقرباً لذات المتلقي.
ومع إنتظام اللحن في وقع بطئ، الا أن الساهر ينتقل فجأة بمقطع: "فراشة جئت القي كحل اجنحتي لديك فاحترقت ظلماً جناحاتي" الى تنويعة سريعة في اللحن، وهذه السرعة لا تبدو إقحاماً على انتظام اللحن، بل جاءت تصويرية تناسب حركة "الفراشة" وتجسدها تعبيرياً.
تنتهي أغنية "أنا وليلى" الى انكسار المشاعر: "تمسي بلا ليلى ...حكاياتي" يأتي وقع لحن شجي نادر، فثمة الكمانات ثم "التشيللو" الحزين فالساكسفون، تتناغم معاً في تسجيل لحظة من مشاعر الشجن العالية التعبير.
بلمسة الساهر هذه عبر "أنا وليلى"، عرفنا مقاربة معاصرة وذكية لقالب ظل لصيقاً بابداع الكبار في موسيقانا وأغنيتنا العربية الاصيلة: محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وغيرهما، واذا كانا قد مثلا حساسية عصرهما بامتياز في قالب تلحين القصائد، فان الساهر طبع هذا القالب بحساسية عصره هو الآخر.

* جزء من دراسة طويلة.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM