كاظم الساهر يغني الحب .. في سنوات الحروب والحصار والمنفى (3)

تاريخ النشر       29/12/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير**





 

" مدرسة الحب" ....غناء معاصر لا يخجل من الموروث
في ثلاثة مستويات من الالحان تأتي أغنيات كاظم الساهر الجديدة، وتحديدا منذ مجموعته الغنائية "سلامتك من الآه – 1994" وصولا الى مجموعته الاحدث "مدرسة الحب". وتتوزع تلك المستويات في الاغنيات التطريبية الصرفة، الاغنيات الشعبية المعاصرة، والاغنيات التعبيرية المستحدثة.
 ومثل هذا التنوع الإسلوبي لا يرد في عمل كاظم الساهر الغنائي واللحني عبثا، فيمكن رد ذلك الى محاولته تكوين مساحة واسعة من التلقي لاغنياته، تضم من يرى في الغناء طربا شرقيا عربيا صميميا، مثلما هي الحال عند من يرى الأغنية مزاوجة بين الجديد والموروث الشعبي،  فيحب من كاظم الساهر تلك الروحية وخاصة حين يغني الشعبي، ولكنه المتصل بأكثر من ملمح تراثي عراقي في روحية الغناء، كما يجد من يبحث عن التحديث التام فكرة ولحنا في الغناء، صدى لبحثه ذلك في اغنيات كاظم الساهر، فيعجب من الجرأة في إجتراح ألحان بدت نادرة في موجة الغناء العربي السائدة والتي تميل الى التشابه والإستنساخ، لا الى المغايرة كما هو الحال في بعض ألحان الساهر.
وكي لا يبدو مثل هذا الكلام تعميما ووصفيا، نعود الى قراءة نتاج الساهر الجديد كما حملته أغنيات مجموعته "مدرسة الحب" فنجد ان التطريب حسب الاصول العربية الغنائية (الشرقية الإصول)، يحضر في أغنيات مثل التي اعتمدت في تركيبها النصي قصائد لنزار قباني، ومثل هذا الإتصال مع الإصول اللحنية للموسيقى العربية والشرقية، لم يكن بالجديد على كاظم الساهر الذي درس مثل هذه الإصول، وتدربت ذائقته وإمكانياته الصوتية على نماذج كبيرة منها أثناء تلقيه دراسته الموسيقية في معهد الدراسات الموسيقية ببغداد، كما انه أنتج ألحانا مميزة في هذا الصدد مثل أغنيات "كثر الحديث" و "خيرتك"، ومع انه ألزم ألحانه التطريبية بوجود قصائد من الشعر العربي كان يشتغل عليها، فهو لم يجانب الحقيقة في ذلك، فتلحين القصيدة يظل نمطا صعبا ويحتاج لمهارات عالية في وعي المقاربة الموسيقية للقصيدة، ناهيك عن غنائها والذي يحتاج لفصاحة في النطق السليم، الذي مكّن التعبيرات من الظهور برشاقة ووضوح.             
وفي عمله على أغنيتي "مدرسة الحب" و "زيديني عشقا" نجد مثل هذا التأثير الواضح للعناصر التطريبية، حيث الجمل الموسيقية الطويلة وميل اللحن الأساسي الى الإتساع في جوانب من حوله تأخذ شكل الزخرفة اللحنية، وهذا عنصر أساسي في طبيعة اللحن الغنائي العربي الاصيل، غير ان ما يؤخذ على الساهر في لحنيه الجديدين قرابتهما الشديدة لعمله الجميل في لحن "خيرتك "، حتى ان المستمع الخبير يستذكر ذلك اللحن ويتداخل مع استماعه الى اللحنين الجديدين، ولا بد لكاظم الساهر أن يراجع مثل هذا العنصر (التشابه) ليجعل ملمح الطرب في إغنياته، أصيلا متجددا على الدوام، على الرغم من كون عنصر التشابه ليس مثلبا على طول الخط، فهو يأتي ضمن تكوين لمسة شخصية، يمكن أن تطبع الأعمال الواحد تلو الآخر.
والأغنيات الشعبية المعاصرة كثيرة في مجموعة كاظم الساهر الجديدة*، غير انها غالبا ما اعتمدت مقاربة أكثر من نمط شعبي معروف في تاريخ الاغنية العراقية، وبقدر ما إبتعدت عن التقليد لذلك النمط حاولت الاستئثار بأرقى ما أنتجه ذلك النمط ألا وهو الروحية، فهكذا نجدها حاضرة دونما سطوتها التقليدية المعروفة، وساهم التوزيع الموسيقي الجديد بنقلها الى انغام عصرنا، فجاءت أغنيات مثل "يامدلل" و"وين آخذك" و "لك وحشة" و "الجميلة"، وهذا الإعتماد على الروحية الأصيلة في الموروث من الأطوار الغنائية العراقية والعربية بعض الشيء، يمنح أغنيات كاظم الساهر الشعبية صفة مهمة تفتقدها الأغنيات العربية السائدة هذه الايام كما قلنا، ألا وهي صفة الإبتعاد عن التشابه المقيت والممل والذي جعل الأغنيات تنسى وتموت ساعة ظهورها، أو بعد ذلك بقليل في أحسن الأحوال.   
لا البناء اللحني فحسب يتغير عند كاظم الساهر من مستوى لحني الى آخر بل هو أيضا التعبير في الصوت اثناء الغناء، فحين يكون صوته عميقا يشع بتعبيرات الطرب في الألحان التي يخصها لقصائد نزار قباني، يبدو ذات الصوت رشيقا خفيفا لمّاحا في أغنيات شعبية يساندها لحن إيقاعي رشيق، وهذا عنصر إكتمال مهم يحرص عليه كاظم الساهر، ويلّون إمكانياته الصوتية حسب ألوان الألحان التي تصوغها ذهنيته التي تغرف من نبع متدفق من الألحان وأنغامها.   

وحين عددنا المستويات اللحنية الثلاثة التي تنتظم فيها أغنيات كاظم الساهر الجديدة، لا بد أن نأتي على آخرها والذي يتمثل باللحن التعبيري المستحدث، والمقصود هنا بالتعبيرية المستحدثة، هو إمكان الحصول على لحن خارج الإصول المتعارف عليها، يتصل بظواهر لحنية ليست عربية احيانا – خصوصا في التوزيع الموسيقي – لكنه لا يعتمد ذلك من أجل الإختلاف المجاني بل يشتغل عليه ليبدو مبررا، إذ غالبا ما نجده يحمل عناصر التحديث المقنع لا الإستعراضي القائم على إستعارة أشكال لحنية غير عربية واضافة صياغة لغوية عربية عليها، وإعتبار ذلك لمحة جديدة في الغناء، لا بل أن مثل هذا التحديث الملفق نجده يتمتع بنجاحات إستعراضية كما حصل في أكثر من أغنية تصف نفسها بانها أغنية عربية، وإعتمادا على "تلفيقيتها" تلك نالت أكثر من نجاح!
اللحن التعبيري المستحدث نجده في مجموعة الساهر الجديدة متمثلة باغنية جميلة مثل " استعجلت الرحيل"،  فلحنها المركب عبر جمله الرشيقة، ناسب الصياغة المرهفة في النص الشعري، حيث الرحيل المفاجيء للحبيب، وإستذكار المعاني التي ما أنفكت تدلل على أثره العميق رغم الغياب والرحيل، ومثل هذه المشاعر وقوة إستذكارها تتداخل وتنمو ألما وجرحا تعجز عن التعبير عنه الكلمات والالحان لتنتهي "همهمات" ينطق بها المغني لتدلك بكثافتها على عمق الألم الذي يمثله الغياب. غياب أصدقاء أو أحبة في عالم لم يعد يحتمل مثل هذه المعاني.
في "إستعجلت الرحيل" تمثيل لما أشرنا اليه من "تعبيرية" هي هنا "مستحدثة"، أكان ذلك لحنيا أم في النص الذي يأخذ إيحاءاته من تعابير عصرنا وتفصيلاته الحياتية والشعورية.   
                                                      
* عرض نقدي نشر بعد فترة من صدور إسطوانة "مدرسة الحب" في العام 1996.
** جزء من دراسة طويلة



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM