علي عبد الأمير*
الأفق الى كآبة رصاصية، الأيام في انتظام حجري والحياة تتضاءل. هذا مدار اللحظة المسروقة تحت سرف مجنزرات الموت الشاروني في "مخيم جنين"، وحيال المشهد وقف العراقيون مستعيدين مشهداً مماثلاً إن لم يكن أشد، مشهد الركام والخليط المرعب للكونكريت واللحم البشري الذي أحال اليه صدام معالم الحياة في مدن العراق التي تجرأت على رفض الذل والهوان، ذل الموت الرخيص تحت سماء ثقيلة من صواريخ التحالف وقذائفه، وهوان الهزيمة في الكويت.
ركام البشر والحجر في "مخيم جنين"، هو نسخة شارونية فجة عن الدرس الذي قدمه صدام حسين في الإنتقام الرهيب من الناس الذين يمتلكون الجرأة على الأمل وعلى ارتكاب الحرية.
وفي حين فضحت وسائل توثيق الحقيقة، إنحطاط اللحظة الإنسانية في المدار الذي أراده شارون لـ "مخيم جنين" بوصفه مركزاً للمقاومة، فإن صدام كان "حراً من هذا القيد" فلا وسائل توثق استباحته دم العراقيين، فالبلاد نهباً له، للحقيقة التي يريدها والعراقيون أدواته الرخيصة، له الحق ان يدفعهم كما يريد وكما تشتهي نزعاته، وليس من حق الآخرين ان يعرفوا أو يدينوا، هو الذي يقول "العراقيون من حصتي"، أي انهم ملكه الذي له الحق ان يبدده أو يلهو به أنّى شاء.
شارون يمضي الآن، وبعد كل خطوة من خطواته أثر من دم فلسطيني، وهذه حقيقة صنعها عصر الصورة والوثيقة الإعلامية والتداول السريع للحقائق، وصدام "يمشي ملكاً" ساخراً في قرارة نفسه من حماقة نظيره الإسرائيلي حين لم يكن ذكياً بمكان إذ جعل مخيم جنين جحيماً دون ان يقطع الطريق على الشهود، فجاءت إستغاثات الضحايا مدوية وجراحهم تلطم الضمير الإنساني وتبصق في وجهه، فيما كان المشهد في حال كربلاءات العراق "مدوزناً" و "مضبوطاً" على إيقاع الموت التام، و "النشامى من الأولاد" كانوا طليقين في قتل إخوانهم من أبناء البلد "الواحد".
سماء من اسمنت ثقيل واُفق من ركام هو خليط من الأجساد المفتتة والإستغاثات التي جفّت، هذا مشهد اللحظة الراهنة يمتد ويتعمق، لتقف فكرة الحرية والأمل بالإنعتاق امام مسار حاسم، وحيال سؤال جارح في سطوعه: أيُعقل ان تظل الحياة في "هلالنا العربي الخصيب" نهباً لقتلة أوباش، وان يكون الناس ادوات رخيصة يمضون جحافل من أرقام يائسة تحت ذراع الطاغية الاسطورية وهي تدفعهم الى خنادق الموت القذرة وان كانت تُحفر بتأثير شعارات "السيادة الوطنية"؟.
رائد التجديد والفكر الشعري... يموت
مشهد العراق وقد صار نهباً لـ "القائد الضرورة" يذهب به الى الموت متى شاء، او يقيم لشبّانه "زفافاً جماعياً" متى شاء، هو المشهد الذي نتج واقعاً كابوسياً، لا يستحقه العراقيون ومثقفوهم الذين نزفوا خلال الأيام القليلة الماضية موتاً أشبه بالفضيحة، موتاً أقرب الى العبث لفرط غبائه ومجانيته: الرائد في التجديد والعزلة والفكر الشعري، محمود البريكان يموت في لحظة انحطاط يريدها صدام للمجتمع العراقي وقائع دائمة، حين يُقتل شاعر كبير عُرف بزهده وفكره الثاقب، ولا يردع قاتليه تقدمه في العمر، فيطعنوه 15 طعنة في جسده السبعيني الذاوي فيما "تكفي" طعنة واحدة لإسكاته!
احد صنّاع الذاكرة الشعبية العراقية .. يموت
يموت أيضاً احد صنّاع الذاكرة الشعبية العراقية عبر سلسبيل الأغنيات، الشاعر الغنائي والشعبي كاظم الرويعي، يموت في عمّان التي جاءها "هرباً من جحيم الوطن ليقع في زمهرير الغربة"، وموته يورث محبيه غصة عميقة، فهو كان على أعتاب "مكان آمن" انتظر الوصول اليه على أمل ان يلتقي مجدداً مع حميد البصري علّهما يصوغان معاً نشيداً خضبهما مثيله ذات مرة وفتن أرواح كثيرين في منتصف سبعينات القرن الفائت، وهو نشيد روح عراقية عذبة "ياعشكنا".
مات الرويعي قبل أن يخرج من "مدار الأزمات" الى مكان أخير علّه يتنفس فيه دون ان يدخل رئتيه المزيد من غبار الحروب، مات كأن على العراقي ان يعيش مجروحاً ويموت كمداً.
رسّام الحرية المؤجلة... يموت
في مشهد السماوات الاسمنتية والموت الرخيص لملائكة الروح ذاته، مات في عمّان التشكيلي العراقي محمد صبري الذي جاء هرباً من انتظام الطغيان حتى في مسارات الهواء ولون الماء، جاء ليرسم لوحة حريته المؤجلة كثيراً، غير ان ما فاته كان كفيلاً بتفجير جسده، فقد فات صبري الذي صاغ مع "مجموعة الأربعة" ملمحاً تعبيرياً في التشكيل العراقي المعاصر، ان جسده بات مفخخاً بسرطان هو أقرب الى تأثير الكمد والغم في قتل الخلايا وتلغيم الثنايا، اكتشف السرطان وقد تفشّى في جسده، في اللحظة التي بدأ معها مشواره الذي أراده ممراً الى حرية تأجلت كثيراً وباتت مع قبره الغريب في ضاحية "سحاب" القريبة من العاصمة الأردنية، أسطورة خيالية عراقية في مشهد صارم الواقعية.
ضمن هذا المدار جاء عدد "المسلة" هذا، غير انه أيضاً تضمن نصوصاً ووثائق تدل على حيوية ما فتأت تؤرخ مقاومة عراقية من اكثر من نوع، كتّاب عددنا وشعراؤه ظلوا اقرب الى تأجيج السؤال وأشهروه جارحاً لواقع كابوسي ومن هنا القول: أي كذب مديد وأي تلفيق كان سيلف مشهدنا العراقي لولا "فسحة الأمل"، فسحة يحفرها في النفق الطويل المسدود، كتّاب العراق ومثقفوه الذين دفعوا ثمناً باهظاً للإنفصال عن مكانهم الطبيعي والخروج منه، ولكنه ثمن مُستحق، لفكرة كبرى تستحق ان يُنذر العمر لأجلها، فكرة الحرية وثقب سماء الطغيان الاسمنتية وفاء لإشعاع نور.
* كلمتي الافتتاحية لعدد مجلة "المسلة" خريف 2002
|