لم يضيع بيتر غبريال، وقته حين اسند اليه المخرج مارتن سكورسيزي مهمة وضع الموسيقى التصويرية لفيلمه الذي اصبح مثيرا للجدل: "الاغواء الاخير للسيد المسيح". فبدأ سلسلة اتصالات شرقية، استعان بموسيقيين من مصر، سوريا، البحرين، والهند، وطلب منهم وضع مقطوعات للتعريف بموسيقاهم التقليدية، موضحا لهم ما يصبو اليه: التعبير موسيقيا عن حدث مهم في تاريخ البشرية حصل في الشرق، وهو ميلاد السيد المسيح.
غلاف اسطوانة "عاطفة"
وبعد ان جاءت المقطوعات، اخضعها بيتر غبريال، لتوليفة حاذقة: وضع الاداء الروحي العميق لآلات الموسيقى الشرقية في قالب حافظ على منح الآلة وموسيقاها، حرية في التعبير: انك بذلك ستألف "الزرنة" وهي تبتهج لمقدم شيء يطلع مع الشمس،او المزامير البدائية او تلك الايماءات السحرية التي يعلنها "السيتار" الهندي.
وكي نمضي في قراءة عميقة لاجواء هذا العمل الموسيقي المهم ومعرفة صاحبه، لا بد ان نعرّف بيتر غبريال للقاريء الكريم: انه الملحن والموسيقي والمغني البريطاني والعضو المؤسس لفريق الروك الشهير "جينيسز" والذي انفصل عنه لاحقا ليكتب اغنياته وموسيقاه وفق منظوراته الشخصية و"دون تدخل احمق من الآخرين". هذا الفنان والموسيقي الموهوب حقا، لم يتردد حين احال اغلب موسيقاه في السبعينات الى جذر افريقي خالص، في الاعلان عن امتلاك موسيقى الشعوب لروحية فذة سيظل يسعى من اجل اقامة حوار اتصالي معها.
وذهنية متفتحة كهذه، لا بد ان تعوّل عليها شيئا، وهكذا كانت نتيجة تعاونه مع المخرج آلان باركر في فيلمه "بيردي" 1985، حين قدم موسيقى تصويرية خلاقة تذكرنا باعماله الغنائية الاولى والتي جاءت مخالفة للذوق التقليدي السائد، وعمله الذي نحن بصدد التعريف به حمل عنوان "عاطفة" ولقي من النجاح ما جعله يقتنى كعمل موسيقي منفصل، لا علاقة له كمرادف تصويري لفيلم سينمائي.
التسمية هنا جاءت دقيقة تماما، فهو موسيقى تفيض عاطفة وعذوبة: (نايات) الشرق الحزين، دفوف موسيقاه، الطبلة التقليدية وشجن الصوت الانساني كل ذلك في مقاطع موسيقية لم تكن منفصلة على الرغم من وجودها هكذا على الشريط ... المادة الخام التي جاءت بها المقطوعات الشرقية لم تقدم كما هي بل اضاف اليها، بيتر غبريال، اشياء من (الكمانات) و (الجلو) وضربات من (كيبورد) خاصة في المقاطع التي كانت بقصد التعبير عن الاجواء التأملية، والاحتفال الاجمل ظل للايقاعات الشرقية.
الاسطوانة حديث عميق عن البهجة والامل الانساني نشتاق اليه دائما ونعود اليه بغية الاستزادة من روحيته الغنية ولنطفيء ظمأ رحلتنا في صحراء الايام القاحلة، فهناك مقطوعة بعنوان "قبل ان يهبط الليل" يأخذك فيها السحر المشرقي الذي ترسمه "نايات" متداخلة الاصوات مع دفوف صغيرة، كأنك على موعد مع شيء يثير البهجة والحيوية.
والتعبيرية هذه تتجسد في طريقة تنفيذ آلات نفخ هوائية عديدة لمقطوعة بعنوان "عاصفة رملية" وتبتهج ثانية لايقاعات من جنوب الخليج وتثير فيك تصفيقة الايدي ملامسة لشعور طافح.
اما المقطوعة التي حملت عنوان "عاطفة"، فهي تمثيل غني لروح الموسيقى الشرقية الاصيلة التي تفيض عاطفة نقية. هناك من (الهند) تأوهات وآلام بشرية في مقطوعة بعنوان (جدارالنفس) وهي من المرات النادرة التي افسح فيها (غبريال) مجالا للصوت البشري في هذا العمل، غير انه لم يكن مجرد صوت بل تذكيرا بان الصوت البشري هو اول آلة موسيقية وما زال بالامكان تأكيد هذه الصفة.
الايقاع مزدانا باجواء احتفال شرقي خالص، زغاريد، وتهليل، هذا ما يكتب فيه، بيتر غبريال، احدى مقطوعاته التي تجسد ولادة الاشياء وما تثيره من مشاعر في النفس لا تريد لها ان تنقطع. انه يودعنا في آخر مقطوعة "خبز ونبيذ" بايماءة حالمة ترافقها وفي النفس صورة هدوء غامر واحساس بالفرح لانك حصلت على شيء يعرّف بعالمك الروحي جيدا.