أحمد الناجي*
قد لا نضيف جديداً إذا ما وسمنا الاغتيال الذي يضج به المشهد العراقي، بأنه أعلى درجات تمثلات نزعة العنف والكراهية والحقد التي تسوغ أن يفقد الإنسان إنسانيته في لحظة معينة، وتدفعه لكي يؤدي الرداءة على نحو وحشي تصل الى حد القتل، ويمكننا أن نلمس كل يوم تكرار إنتاج ثقافة الموت بشكل مكثف في راهننا بوصفه أهم مرحلة تاريخية عرفها العراق الحديث، حافلة بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية، وقد لا يكون من قبيل الصدفة أن يقدم فيها المثقف العراقي كثيراً من التضحيات، ومازالت قرابين الكلمة الحرة على قيد الانتظار مستعدة لاستقبال رصاصة غادرة مجهولة الهوية.
انقلبت القيم وتغيرت المقاييس، لما تبددت أطواق الاستبداد، ووقع اختيار القتلة على قاسم عبد الأمير عجام، ذلك الإنسان المثقل بهموم الثقافة ومحنة العراق، والمثقف المتمايز في التزامه الوطني وإبداعه الأدبي، وفي الغالب جاء بالتزامن مع اختياره مديراً لدائرة الشؤون الثقافية، لأنه دخل الوزارة يحمل مشروعه على يديه ليشارك في مسيرة بناء هذا الوطن، ومن يعرف أبا ربيع يدرك انه لم يكبر بمنصبه، ويدرك أيضاً أن طموحاته هي التي كبرت واتسعت في سبيل إعادة بناء ثقافة عراقية رصينة، وكان الرجل المناسب في المكان المناسب. مؤكد شخصية مثل قاسم تكون هدفاً لأعداء الحرية والعابثين بأمن الوطن في زمن ضج بالصخب وتضبب بالأدخنة، في تلك الأجواء سخر قساة القلوب أصحاب الرهانات الخاسرة صبياً لا يميز الأسود من الأبيض للقيام بمهمة إسكات قلبه النابض، والانقضاض على أحلامه ومشاريعه المؤجلة، قبلها الجاني على الأكثر تحت أوهام يافطة براقة دون ممانعة أو نقاش، وكأنه لم يجادل حتى على ضئالة الخمسين ألف دينار ثمن جريمته النكراء، وفي لحظة نحس يوم 17 مايس 2004، لم يستغرق الأمر إلا ثوان معدودة لكي يظفر ذلك المجرم ببشاعة مبتغاه، وبجرة بندقية يغرق المكان بدمه الطاهر، منهياً رجل الكلمة الطيبة، فيما كان قاسم بجرة قلمه يصب على البياض الناصع زيته، يصوغ المواقف النقدية الوامضة، والكاشفة بنور ساطع عن تفاصيل دقيقة من أحوالنا السياسية والاجتماعية والثقافية في أحلك الظروف عتماً. لا نحتاج الى برهان لإثبات بؤس من أسهم في تخطيط ذلك التدبير الإجرامي ومنفذيه، فلم تكن مرامي القتلة تقف عند حد تغييب مبدع نبيل وحالم بوطن تفترشه الشمس فحسب، بل تنطوي تلك الإرادات اليائسة على استهداف كل ما يمت بصلة الى الحياة ومواطن الإبداع والجمال والبراءة والنقاء في جسد الثقافة العراقية. من أية وجهة أتيته، تلقاه أديباً مبدعاً بمعنى الكلمة، بصيرة ثاقبة ووعي نقدي، تراكم معرفي وفكري، وذاكرة لا يجرفها النسيان، بدأ ينشر في الصحافة مطلع الستينيات من القرن الماضي، أولى مقالاته أخذت طريقها الى النشر في جريدة الجواهري "الرأي العام"، واضعاً نفسه على عتبة درب طويل، ووجد نفسه في القصة، ولكنه انصرف في منتصف السبعينيات بوجه خاص الى النقد التلفزيوني، فتفجرت طاقته الإبداعية، وتوالت روائعه في الفن القصصي الى جانب دراساته النقدية، وغمر نتاجه صفحات "طريق الشعب" و"الفكر الجديد)" و"الثقافة الجديدة" و"الثقافة"، وحقق في تجواله الفكري خلال العقود الثلاثة الماضية منجزاً مترامي الأطراف في مجال الدراسات النقدية توزعت على فنون إبداعية منها: التلفزيون والمسرح والسينما والشعر والرواية والقصة، وبقدر ما مكنته تلك الاشتغالات من تحقيق حضور واسع في الحياة الثقافية، فإنها بعد رحيله لا تمحى من الذاكرة بالسهولة المتوقعة. أبو ربيع قنديل القديسين، شخصية بلغت من التماسك أشده في مشوار شاق وطويل، ومن الصعب أن تحصر مزاياه وتحصي خصاله، ولا أعتقد أن أحداً تعرف عليه يمكن أن ينساه، ولم يسعى الى الاحتذاء به، وما أن تجلس الى جانبه إلا وتنشد اليه والى أريحيته، وتشعر بروح المفكر النقدي، المنهمك بمضان البحث عن حقائق الأشياء، وعن حياة تليق بالإنسان وبكرامته، وإذا ما نصت اليه وهو على منصة فستكون أمام مثقف موسوعي وموهبة استثنائية، تفيض بحس أخلاقي فذ، فهو مجرد أن يتحدث يملأ الجو القاً، وتنساب إيقاعات حديثه الأخاذة بسلاسة، مسترسلاً يمضي برصانة الكلمة، يكون علاقة حميمية مع المتلقي، يستفز فيه كوامن النفس والفكر، يتحدث بثقة فتحس بأنه واسع الأفق، وتتمنى لو واصل كلامه، وتكشف بهاءه كإنسان، حينما تختلف معه وتحاوره، وبكلمة موجزة، كان قاسم عبد الأمير عجام، علامة فارقة في الإبداع، ودالة على ذهنية العقل العراقي.
* نشرت المقالة في الذكرى الرابعة لاغتيال قاسم عجام في موقع "الحوار المتمدن"
|