عمّان – علي عبد الأمير*
لا تُذكر سنوات الغناء العراقي المعاصر الذهبية (سبعينيات القرن الماضي بخاصة)، إلا ويُذكر المطرب سعدون جابر، الذي طبع الأغنية العراقية بنمط من الأداء الغالب عليه التأسي ونعومة حزينة.
وإذا كانت قدرات جابر الصوتية محدودة، فإنها بدت أوسع مما هي عليه في حقيقة أمرها، حين صاغ لها الملحن اللامع كوكب حمزة، ألحاناً نادرة لعبت على صفة التأسي والشجن، حتى كادت تلك الألحان تختصر صورة صاحب أغنيات: "طيور الطايرة" و"هوى الناس" و "الكنطرة (القنطرة) بعيدة". ومع ابتعاد كوكب حمزة عن صوت سعدون جابر، الذي اختار القاهرة ونوادي لندن الليلية في الثمانينيات منطلقَين لمرحلة تالية من سيرته الغنائية، وتعاونه مع ملحنين عراقيين متوسطي الموهبة مثل كاظم فندي، ثم استعارته لفترة "ألحاناً خليجية" ومحاولته "الغناء للحرب"، بدت صورة سعدون جابر كمغن للبيئة العراقية غير المنغلقة على خصوصيتها، خافتة حتى كادت تغيب. ومع بداية العشرية الماضية كانت "مياه كثيرة مرت تحت الجسر"، وظهر جيل غنائي جديد في العراق، أوضح ملامحه تمثل في كاظم الساهر، ومن هنا كانت المراجعة ملحة وأساسية عند سعدون جابر، وبدأ محاولة ظهرت عسيرة وجافة في غناء قصيدة السياب "غريب على الخليج" بحسب لحن طالب القره غولي، ومع شريطين أو أكثر لم يعلق من جديد سعدون جابر شيئاً في أذهان المتابعين ولا حتى الجمهور العادي الذي كان يطلب في المهرجانات العربية من صاحب "حسبالي" أغنياته القديمة! وأحسن سعدون جابر صنعاً (لجهة تدعيم حضوره بين الجمهور العربي) في تمثيله وغنائه ضمن مسلسل "ناظم الغزالي" الذي رسم صورة شجية للغزالي الذي ما زال، برغم 35 عاماً على غيابه، أشهر الأسماء الغنائية العراقية لدى الجمهور العربي. وحاول سعدون جابر إعادة الاتصال مع ألحان كوكب حمزة الذي بعدت به الشقة عن ينبوعه الوجداني والاجتماعي بعد نحو عقدين على مغادرته العراق، ولم تبرز المحاولة الثنائية في إحياء ذلك النمط الشجي الذي وطد حضور سعدون جابر. وإذا كان كوكب حمزة "عنصر الثقل" في أغنيات سابقة ناجحة، فلِم لا يجرب سعدون "عنصراً" ليس أقل تأثيراً؟ وهو ما فعله حين "أقنع" الشاعر مظفر النواب في غناء "قصيدة شعبية" تضمنها الشريط الأحدث الذي حمل عنوان "الرمال" وضم ست أغنيات إضافة إلى قصيدة النواب، وقّع ألحان اغلبها، الملحن العراقي كاظم فندي.
الكاتب (يسار الصورة) خلال مؤتمر صحافي للمطرب سعدون جابر بعمّان
وعلى إيقاع متنافر استعار من الخليج أكثر مما انتظم في روحية عراقية، جاء لحن فندي لقصيدة النواب "مو حزن لكن حزين"، ووسط هذا التنافر ضاع صوت جابر حتى إنه في (الجواب) وحين غنى "مثل بلبل قعد متأخر / لقى البستان / كلها / بلايا ... تين" إختفى تماماً، وعوضاً عن صياغة لحنية تميل إلى الهدوء – بحكم جو القصيدة – جاء اللحن مرتبكاً وسطحياً، لم يقرأ القصيدة جيداً مثلما لم يقرأ صوت سعدون جابر، وهذا "الخطأ الذهبي" للملحن كاظم فندي تكرر مع أغنية "التواضع حلو ..." التي كتبها على العتابي، وجاءت مفرداتها تقريرية مباشرة: "انظر إلى دنيتك (دنياك) / أجمل فرص فاتتك / وإنت بوقت ضائع" وهنا كان اللحن الإيقاعي الراقص (غربة) بل غرابة عن صوت سعدون جابر الميال للبوح وبحسب (قرارات) طيبة في صوته الذي جاء في الأغنية جافاً خالياً من العُرَبْ. وبحسب صياغة لحنية ذكية نهلت من موروث طيب توزع على خارطة الغناء العراقي في السبعينيات والثمانينيات، غنى سعدون جابر "كل ليلة"، كان فيها كاظم فندي مخلصاً لذلك الموروث ومجتهداً في صياغة أغنية رصينة مكنت جابر من مداعبة بعض أثره الحميم. وإذا كان قالب غناء القصيدة يفترض إمكانات صوتية محددة، منها سلامة النطق وطلاقته عند المطرب، ناهيك عن براعة لحنية تمزج التطريب وبالتعبير، فإن سعدون جابر لم يكن مشغولاً على ما يبدو في هذه "الافتراضات" حين غنى من شعر!! وألحان كاظم فندي أغنية "الرمال"، وبالرغم من اجتهاد سعدون جابر في الانتقال بصوته إلى تعبيرية ما، إلا أن نَصاً شعرياً ضعيف الخيال، ولحناً عادياً، أحبطا محاولته في تقديم (قصيدة مغناة) حقيقية. * نشرت في "الحياة" 1999
|