شباب بغداد صاروا "شيابا" لكنهم ... يغنون
حكاياتهم تكاد تكون واحدة: أحلام مشرعة، وأرواح تخفق بقيم الجمال والخير والعدل في فسحة من المعرفة والمحبة والصداقة.. يجمعهم النغم الرفيع، اغنيات واشواق واسفار بعضها حقيقي واخر متخيل، مركزها بغداد زاهرة في اوائل سبعينيات القرن الماضي.. بعد اربعين عاما هاهو بعضهم يلتقي مرة اخرى، صحيح ان الشيب ادركهم، ولكنه صحيح ايضا ان قلوبهم فتية وما تزال تغني النغم الجميل ذاته.
"الحياة" كانت حاضرة في أمسية تبدو منتمية الى الخيال المحض، فثمة صديق لثلاثة بغداديين، كانوا يشكلون معا (الاربعة) قبل نحو اربعين عاما، فرقة موسيقية متخصصة بتقديم الغناء الغربي السائد في سبعينيات القرن الماضي، لكنهم افترقوا في جنبات "الدياسبورا" العراقية، ثم عادوا الى المدينة التي احبوا لقضاء "آخر العمر"، لا سيما ان معظمهم صار في الستين أو بلغها، وما إن عرفوا بوصول رابعهم حتى اقاموا له حفلة بدت محاكاة لانغامهم التي كانت تتصاعد في فضاء بغداد قبل اربعة عقود. وحين سألهم بعد انقضاء لحظة الدهشة " لماذا تحكمون اغلاق الابواب والشبابيك، فيما هواء حديقة البيت رقيق ومنعش؟"، فأبلغوه ان "المدينة حزينة حتى اربعين يوما، وان اي اظهار لعدم احترام الشعائر، مثل الموسيقى، يعني عارا مستديما سيلحق بمن يقترفه، وقد يفقد حياته ثمنا لما اقترفه من موسيقى"!
العنف في بغداد ومن أجلها؟
عن هذه المفارقات لجهة انحسار قيم المدنية في بغداد، وسيادة قيم العنف فيها، كتب الشاعر والصحافي حميد قاسم "هل تتخيلون ان الصراع على السلطة - بغداد كإيقونة - هو صراع قيمي؟ أهو صراع الريف والبادية؟ أهو صراع الراعي والفلاح؟ صراع فقه بمواجهة فقه..أعني صراع عقيدة بمواجهة أخرى؟ أم صراع ساسة يدافعون عن مصالح من يمثلونهم؟ مادة الصراع وهدفه هو المدينة، القيم الحضرية هنا هي الضحية، أعني الناس".
ويضيف "ربما هذا كله صحيح أو الوجه الظاهر للصراع. لكن الصراع الحقيقي الذي يجري اليوم وندفع ثمنه من دماء العراقيين -الابرياء وغير الابرياء- هو صراع قتلة مدججين بالحقد والكراهية. صراع شرس يؤججه هؤلاء وتنفذه أدوات بشرية همجية لفرط الإجرام والانحطاط. رؤوساء العصابات يتنعمون بالمليارات ويهذون بتراتيل وأدعية وأحاديث كلها دم و وسوسة. ما لنا نحن في هذا المذبحة"؟
ليصل صاحب قصيدة "لماذا يغنون؟" الى القول " لا مكان لنا في هذه البيئة المتوحشة بين هؤلاء الاوغاد القساة..هذا ليس وطنا يصلح للعيش الآدمي، بل مسلخا، وفي أحسن الأحول مصحة عقلية..كيف يمكن لنا ان نتفاهم مع هؤلاء الوحوش؟ لو كان الأمر بيدهم لمنعوا عنا حتى ان نقاسمهم الهواء الذي نتنفسه، الهواء الذي يسمونه هواء الوطن".
* نشرت في "الحياة" وبحسب الرابط التالي