الاغنية البغدادية: ملامحها وأعلامها، شعرا ولحنا وغناء

تاريخ النشر       05/10/2014 06:00 AM


الاغنية البغدادية*

علي عبد الأمير *
 
المكان، الطبيعة الاجتماعية وتحديات العصر
كانت المحلة البغدادية الشعبية نبعا للمواهب الموسيقية والغنائية في ثلاثينات القرن الماضي واربعيناته ، فهي بحكم التركيبة الاجتماعية اوجدت غنى ثقافيا متعددا لجهة اختلاط العرب بالكرد والتركمان ، وتناغم المسلمين مع المسيحيين واليهود، فيما تولت مؤسسات الدولة الفنية الناشئة (المدارس بعامة ومعهد الفنون الجميلة بخاصة) حينها وبحسب جيل من البناة، تولت صقل تلك المواهب الطالعة من البيئة المركبة والغنية اجتماعيا وثقافيا.
ومن بين المحلات البغدادية الشعبية القديمة وازقتها ومسالكها، كانت قد طلعت تجارب  فنية ستؤثر عميقا في الروحية العراقية، فهناك رموز للطرب والغناء طبعت محلات بغداد الشعبية، أرواحهم ببداهة وطلاقة تعبير عمادها تعاليم الموروث الديني القائم على التسامح، وتهذيب العقل واللسان عبرتعاليم "الوطنية الجديدة"التي كانت المدارس تتولى غرسها في الافئدة والعقول الشابة.     
 
من اجواء " محلة الفضل"(1) ان الفنان الموسيقي الراحل خزعل فاضل، عرف نعومة الظلال في صيف بغداد اللاهب، وألفة البيوت المتجاورة والايقاع المتداخل لاصوات النسوة من داخل تلك البيوت وصولا الى اصوات الرجال في مشاغلهم وورشهم الصغيرة، مرورا الاطفال اللاهين في الازقة. اجواء تلك البيئة الشعبية وان بدت " ضيقة" و"خانقة"، الا انها حركت الخلق الفني عند فاضل واسماء فنية عراقية بارزة اخرى، وتمكنوا من صوغ وسائل تعبير فنية عملت بجدية لافتة على " تأصيل الحداثة"، فهم نقلوا أسس المعرفة العلمية والفنية الحديثة كما تلقوها في مراحل الدراسة الى شكل من الانسجام مع بيئتهم وان كانت شديدة المحلية، فالراحل خزعل فاضل كان عازفا على " التشيللو"، يحمل آلته الضخمة  عصرا كأنها كنز فريد ويتجه بها ماشيا بلا كلل الى "دار الاذاعة" في الصالحية مشاركا في حفلة او عازفا مع فرقة، ودون ان ينسى الحفاظ العناية بمظهر قائم على أناقة مفرطة رغم انه خارج من محلة شعبية لم تعتد " المظهر الغربي" حينذاك، اناقة كانت تنسجم مع غلاف نسيجي نظيف ضم فيه آلته.                                      
ومن تلك الاجواء ذاتها خرج "المونولوجست"، حسين علي، الذي برع  في عالم "المونولوجات" بايقاعاتها الموسيقية الطريفة والحيوية وجذور نصوصها القائمة على التهكم ونقد الظواهر السياسية والاجتماعية ، ومن هنا جاءت الطريقة التي ينشد عبرها اذ كانت اقرب الى التمثيل منها الى الغناء. كان ذلك " الفنان الشعبي"  مؤلف اعماله الغنائية وملحنها، وكانت موضوعاتها تصف وقائع بيئته منتقدا "عادات سائدة سيئة " او سلوك غير محبب فضلا عن قضايا اجتماعية وسياسية كان يقاربها بالرموز.
ومثلما ألهمت إناقة العازف خزعل فاضل، وترف ثيابه أجيالا من ابناء محلته، كان " المونولوجست" حسين علي أنيقا هو الاخر، حد ان كثيرا مما نقل عن صورته "معجبا  بنفسه وببدلاته التي كان يتأنق بلبسها واختياره لاشكالها وموديلاتها من الصور التي يعرفها اهل "دربونة الكروية" التي كان يسكنها"، وكانت حكايات اناقته المتغايرة بما يناسب الحانه وغنائه يتناقلها الناس على انها  نوع  من التسلية البريئة.
                                                                           
ولايمكن الحديث عن تأثير البيئة البغدادية الشعبية الخصبة دون الحديث عن تأثيرها في اغناء روح " المقام العراقي" كأحد ابرز تجليات البيئة البغدادية نغميا وموسيقيا ، ومن  اجواء " المحلة الشعبية"  خرجت اسماء عدة من المؤدين الذين برعوا بقراءة "المقام العراقي" فضلا عن اعداد من مؤدي "المربع" ( شكل من اشكال الغناء القائم على التكرار اللحني واللفظي والمؤدى بطريقة اقرب الى التمثيل معتمدة على حركة المؤدي امام قوس من جوقة المنشدين)، واولئك كانوا عناصر الفرح والانس في مناسبات الاعياد وحفـلات الزفاف، وتميزت اصوات مؤدي هذا اللون من الغناء الشعبي البغدادي بالمساحات العريضة ومرونة الانتقالات الصوتية بما يناسب اشكالا من المشاعر كانوا يجسدونها.
 صحيح ان المحلة الشعبية كملمح مكاني كانت تتميز بـ"الضيق"، الا ان اجوائها الاجتماعية كان على النقيض من ذلك، فهي ظلت حاضنة لانفتاح "واسع"، حدّ انها لم تتقاطع مع خطوات التحديث الفكري والسياسي والاجتماعي التي عرفها العراق في النصف الاول من القرن الفائت، وثمة اعلام عراقيون مرموقون : مغنون، كتاب، شعراء، علماء ومفكرون مزجوا فيها بين الروحية " الفطرية" والعلوم والمعارف الحديثة، فثمة الشيخ محمد علي الفضلي الخطاط والعالم، ورائد "المقام العراقي"محمد القبانجي، والباحث الموسوعي في اصول الغناء والشاعر عبد الكريم العلاف، وصاحب المدرسة المعاصرة الشامخة في فنون الخط العربي هاشم محمدالخطاط، ورائد المسرح العراقي حقي الشبلي، والتشكيلي الرائد حافظ الدروبي وعشرات غيرهم، ممن تحصلوا على خبرات فنية، كبرت واتسعت في جنبات تلك الامكنة الضيقة من بيوت وازقة المحلة الشعبية البغدادية، حيث بيئة الانفتاح و"التكافل والعرفان".
 
كان للتداخل الاجتماعي في البيئة البغدادية، وتحديدا منذ قيام الدولة العراقية المعاصرة، حتى نهاية عقد الإربعينيات، حين بدأت اولى ملامح التخلخل في تماسك تلك البيئة، مع الهجرة القسرية والطوعية على حد سواء لليهود العراقيين ( في الثلث الاول من القرن العشرين كانوا يشكلون نحو 15 بالمئة من سكان العاصمة العراقية)، وما رافقها من اعمل السلب والنهب لممتلكاتهم، قد انعكس في نسيج ثقافي، اتضحت ملامحه في فنون تستمد حيويتها من الموروث، وابرزها الأغنية، حتى وإن ظلت تسبح في فلك المقام العراقي، فكانت تنهل من التلقائية في اللغة المحكية وتلميحاتها، وتبرز الآهات والاشواق والامال ايضا، فضلا عن كونها كانت اول الفنون التي تأثرت بموجات الحداثة التربوية والفكرية، فصارت الحانها اعمق فنيا، وتنزع نحو سياق نغمي خاص، لم يخف تأثره ايضا بالانفتاح على الموسيقى العربية المعاصرة ( المصرية على وجه الخصوص)،  مثلما كان قد حمل ضمنيا، روحية نغمية من الموسيقى الايرانية، والتركية والارمنية، اذ كانت بغداد مدينة مفتوحة، ولا تحديدات على الاقامة فيها، ضمن عنوان عريض عنوانه الانفتاح والتسامح الاجتماعيين، وبضمن هذا العنوان كان من الطبيعي تداخل الانغام الكردية، والطريقة التركمانية في اداء المقام، مع الالحان الشرقية- العربية في سياق الاغنية الحديثة التي اجتهدت في الخروج من معطف المقام العراقي.
وليس غريبا حتى منتصف القرن الماضي ان  تسمع من المغني العراقي "يا دوست"، بمعنى "يا صديق"، و واخرى مثل "فرياد من" بمعنى "النجدة"، و "دل ياندم" بمعنى "قلبي اشتعل"، و "ايكي گوزم" بمعنى "عيناي الأثنان"، و "دل من" بمعنى "قلبي"، و "جان من" بمعنى "روحي"، و "أفندم" بمعنى "سيدي". 
ويرى الشاعر الغنائي والباحث عبد الكريم العلاّف، ان سبب استعمال هذه الكلمات الاجنبية و وضعها في المقامات العراقية هو عائد لامر تاريخي يرجع الى تبادل احتلال بغداد من قبل الجارتين اللدودين: ايران وتركيا، فيوضح أن "الأمتين الفارسية و التركية لما دخلتا بغداد و استوطنتها كانت الموسيقى العراقية رغما على ما حصل بها من الفتور و الأنحطاط في طليعة الفنون الجميلة عند هاتين الأمتين، وكان المغني العراقي يومذاك شديد الرغبة في ارضاء مواطنيه و مجاراتهم فأخذ يستعمل مثل هذه الكلمات في سياق غنائه حينما يرى الفارسي و التركي من بعض مجالسيه " دون ان ننسى ان القاموس الاصطلاحي للمقام العراقي يبدو في معظمه منسوبا الى الفاظ فارسية وتركية بدرجة اقل.
واذا كان اساطين الاداء المقامي، برعوا في "البستة" التي صارت الرحم الحقيقي للاغنية الحديثة، فان لهذه الاغنية التي صارت قرينة ببغداد الذاهبة حينها بثقة الى التطور العمراني والثقافي والاقتصادي، صارت صاحبة تأثير قوي، حدّ ان "نجوم" الاغنية الريفية، حرصوا على الظهور في بازياء المدينة الانيقة، فثمة صورة بالغة الدلالة، للمطرب الريفي الفذ، حضيري ابو عزيز، وهو في كامل بدلة السهرة الاوروبية، وذلك لم يكن تأثرا خارجيا اعتباطيا، فالرجل كان دخل الجو الغربي الحديث، حين حرصت شركات تسجيل الاسطوانات الالمانية والبريطانية ثم العراقية، على تسجيل اغنياتها في ستيدوهات متطورة تقنيا وبصحبة موسيقيين يقودهم مايسترو وامامهم النص اللحني "النوتة الموسيقية".
"البستة" وصورتها الاجتماعية(2)
ويرى الباحث المرموق في الموروث البغدادي، واللغوي الراحل الشيخ جلال الحنفي* ان "البستات من المصادر النغمية المهمة، و الاصل في تسميتها: انها تعني نغمة مذيلة تاتي بعد الفراغ من المقام اوقبل الفراغ منه . و غلب على البستات ان تغني بعد الانتهاء من غناء المقام، اذ صار يغنيه الجوق الموسيقي المصاحب للمغني، و يتولى ادارتها بستچي معترف به يكون ضمن جوق الجالغي في هذه الحالة وان لم يعزف شيئا".
وتكون "البستات" من "جنس النغمة الاساسية في المقام، و قد يشارك في انشاد البستة مغني المقام نفسه. و من الضروري الاشارة هنا الى ان قارئ المقام كان يجلس الى جوار جماعة الجالغي، و لم يعرف في غناء المقام وقوف المغني على قدميه، انما حدث ذلك بعد الاربعينيات تقليداً لما كان يجري في بعض البلاد العربية بفعل ماحدث من ضخامة الفرقة العازفة، و استعمال المايكروفونات، لذا جعل للمغني حق الانفراد و البروز لاسيما حين يكون الغناء على مسارح كبيرة و امام مستمعين كثيرين".


 
و كان اول من غنى في بغداد واقفا الاستاذ القبانجي، ثم مضى على ذلك من بعده يوسف عمر و عبد الرحمن خضر، و صار وقوف المغنين حالة طبيعية عند الغناء.
و تعد البستات وثائق نغمية متميزة، بحسن ادائها و لطف تلحينها اضافة الى ما عسى ان يكون التنويه فيها بحدث تاريخي، فلقد كان بعض الغناء لدى البغداديين يؤرخ به لاكثر من مسالة كائنة في حياة الناس، و معظم البستات التي غنيت في مجالس المقام ببغداد كانت موفقة في تلحينها، و قد يكون مرد شيوعها الى هذا ان "لدينا من البستات القديمة المجهولة الملحن ـ والتي لم تكن قد نقلت من الحان قادمة من الخارج ـ اغنية "دشداشة صبغ النيل"، فان لهذه البستة تلحيناً موفقاً غاية التوفيق و ماتزال، على قدمها، تفعل فعلها في الامزجة و العواطف.
و من البستات القديمة الشجية : "بالله يا مجرى الماي ذبني عليهم" و منها "حّمل الريل و شال للناصرية"، "گلي يا حلو منين الله جابك"، "فوك النخل فوك"، "جواد جواد مسيبي"، و (فراك الحلو بچاني، "يا زارع البزرنگوش" و "يا صياد السمچ".
ويعيد الشيخ الراحل الحنفي بعض البستات الى احداث وقعت في البلد فمنها "أنا المسيجينة انا، انا المظيليمة انا، انا الباعوني هلي بنوط والوعدة سنة" و هي تشير الى العملة الورقية التي اصدرتها الحكومة العثمانية ايام الحرب العالمية الاولى دون غطاء ذهبي، و قد كتب عليها ما يشير الى تعهد الدولة بدفع ليرات ذهبية لقاءها بعد انتهاء الحرب. فكانت الناس تتهرب من التعامل بها حتى كانت شكوى تلك العروس من زواجها على مهر من تلك النقود. فيما صار القطار وسيلة التنقل الى مدينة الناصرية اليها فكانت هناك اغنية تشير الى هذه الاحداث و هي "حمل الريل و شال للناصرية" و الريل هو القطار".
و حين دخل البرق العراق (التيلغراف) و نصبت اعمدته، كان هناك من نظم مقولة شعرية غناها، جاءت فيها اشارة الى هذا الاختراع غير مقصود" يا تيل يا بو عمد/ ودي لعشيرتي اخبار/ فارگتهم من جهل/ مدري وراية اشصار".
وفي هذا السياق في التفسير الاجتماعي للغناء، يورد الشيخ الحنفي ايضا، "ما اوردناه من هذه النماذج يقع التمييز فيه بفضل لحنه بالدرجة الاولى، لان حكاية الموسيقى هي حكاية اللحن و العطاء النغمي، و اعمال الالفاظ في هذا الوجه انها هي مزيد من الفن و التعبير المعبر عن المشاعر و حاجات النفوس. و في ايامنا كان هناك شيء من مثل ذلك فعند ظهور (السدارة) التي اعتمر بها الشباب العراقي و الشخصيات الرسمية الكثيرة في أواخر العشرينيات غني الكبنجي اغنية "يا حلو يا بو السدارة، متيمك سوي له جارة"، وحين قصت بعض الفتيات جدائلها غنى القبانجي "البنية بنت البيت گصت شعرها"، و في ايام الحرب العالمية الثانية في الاربعينيات شاعت اغنية التموين: "عمي يبو التموين يبه/ دمضي العريضة، دمضي"، اذ كانت الحياة الاقتصادية ترتبط بتوزيع بطاقات السكر و الشاي و الملابس القطنية و غير ذلك على الاهلين".
هي اذن، الطبيعة البشرية لاهل بغداد، وسياقات عيشهم وعاداتهم، وطرق التعبير عن عواطفهم، ثم الاتجاهات الفكرية الطامحة الى التجديد والتغيير، التي كانت الدولة العراقية تحاول ترسيخها، والتخلص التدريجي من العب الثقيل لمحرمات الدين والعشيرة، والانتقال الجدي بالموسيقى والغناء من الفطرة الى العمل المنهجي: ستديوهات تسجيل اسطوانات، معهد موسيقي، ثم اذاعة تتولى بث النتاج المحلي والعربي والعالمي ايضا.

* جزء من فصل عن "الاغنية البغدادية" ضمن كتاب معد للطبع "في سوسيولوجيا الأغنية-

سبعة عقود من النغم العراقي المعاصر بوصفه ملمحا اجتماعيا"

هوامش
(1)حكايات فناني " محلة الفضل" مأخوذة عن مقال د. ايهم عباس القيسي جريدة "العراق" 3 أيًار 2000
(2) من ملحق خاص عن الراحل الشيخ جلال الحنفي اصدرته مؤسسة "المدى".


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM