علي عبد الأمير*
في أمسيتين قريبتين، قرأ الشعراء خزعل الماجدي: محمد تركي النصّار، حميد قاسم وعبد المنعم حمندي، نصوصاً أمام جمهور إتحاد الأدباء، وفي مرة أخرى قرأ الشعراء جان دمو، كزار حنتوش، نصيف الناصري، حسن النوّاب وكريم شغيدل.
وفي الأمسيتين تقفز مرة أخرى الى مقدمة القضايا الحاضرة قضية تلقِّي الشعر المعاصر عن طريق الإنشاد الصوتي له, وتتناثر بضعة أسئلة تتمحور حول جوهر واحد يقول: هل يمتلك النص الشعري المعاصر القدر على التأثير في المتلقي عبر إنشاده وقراءاته من على المنبر؟ ثم هل كل ما يُكتب الآن هو صالح بالضرورة للإلقاء؟
لا بد من التأكيد هنا على أن القضية في حالة الإلقاء للنص الشعري وتلقيه هي عملية, عاملها المشترك هو الصوت وتراتبه الإيقاعي أي الموسيقي ولكون النَص المعاصر في أغلبه يفتقر, بل يبتعد أصلاً عن هذه الصفة لذا من الصعب أن يظل النص (النثري) تحديداً قادراً على التأثير في المتلقي لإفتقاده الى هذه الصفة.
وحين نمضي في فحص نصوص الشعراء لتأكّد لنا ذلك وتعرّفنا على بعض الجوانب في نصوصهم والتي ساعدت في إضعاف صلة التلقي أو لإدامتها أحياناً ... كيف: حين قرأ الشاعر خزعل الماجدي نصَّه الجديد، ذلك الذي وصفه الشاعر الناقد حكمت الحاج بأنه "رحلة يولسيس عراقي" يجوب في متاهاته الخاصة، مرّ النَص خلال القراءة (بصوت الشاعر وطريقته في الإلقاء) وتلقيه من قبل جمهور له صلة مباشرة بالموضوع (شعراء، نقّاد، وجمهور ثقافة على العموم) بمراحل عدة: الإنشداد الأول حيث النَص إعتمد إظهار نتائج خفية لحالة ما بعد الحرب وإنعكاساتها في بُنية إجتماعية, ولسخونة الموضوعة لاحظنا علامة الإنشداد, ولكون النَص مال لاحقاً الى التشكيل ضمن أطر سردية وفي مضمونية قاربت الأسطورية, خفت الإنشداد وإضطرب الشاعر ذاته في القراءة, وحين نُضيف الطول النسبي للنَص زائداً كتابته ضمن شكل النَص النثري لوصلنا الى نتيجة مؤداها ان النَص كان سيشكله المتلقي بطريقة أكثر هدوءاً وإقناعاً لو إنتقل التلقي من العنصر الشفاهي (الإلقاء) الى البصري (القراءة على الورق).
وزاد الشاعر محمد تركي النصّار الموضوعة إلتباساً, حين قرأ نصَّاً أسماه (الدرس الأول) وهو في حيثيته ليس بالنَص الشعري وإنما مفهومات بلاغية عن الكتابة الشعرية: الشخصي، الموضوعي التماثل والتطابق أو التنافر مع الذاتي ... هذا الجزء من قراءة الشاعر لَيؤكد تماماً ما ذهبنا إليه في البداية، ألا وهو عدم دقة إختيار الشاعر لما سيقرأ على الجمهور وتنحيته جانباً أهمية عناصر التوصيل، الشاعر ذاته إستطاع ردم هذه الهوة مع جمهور المتلقين في نَص شعري موجز مكثّف الدلالة يشبه مقطعات محمد تركي النصّار التي تعرّف اليها المتلقي وسكن عند بعض قدراتها التعبيرية المتقدمة، هذه أولى تخطيطات النّص الشعري المعاصر الذي يمتلك أسباب الإتصال الناجح مع المتلقي (مقطعات صور شعرية مكثفة ) تعويضاً عن فقدان التناغم الصوتي الذي يشكله التراتب التنغيمي للموسيقى في الشعر.
الشاعر حميد قاسم نعم هذه الصفة موجودة في نصوص الشاعر (حميد قاسم) القِصار ولكن الإتصال لم يتم مع غالبيتها لخيارها كتابة تأملية تصلح لعلاقة قراءة (بصرية) لا التلقي الإنشادي، وهي تمثل مقترحات لقراءة الشخصي الوجودي دونما إستعانة بأجراس تنبيه خارجية، هي نصوص خافتة الصوت لكنها عميقة الرؤية، والشاعر قرأها هكذا دونما محفزات وأسانيد استعراضية في التقطيع والتوقف عند فكرة ما، كما فعل غيره وشد الإنتباه إليه. إنه كان ينثرها على الجمهور مختلفة الإيقاع صوتيا والرؤية بصريا، وهكذا ضاعت فرصة إتصال أخرى عثرت عليها شخصياً حين قرأت النصوص (بصرياً) وهي مطبوعة على ورق الجريدة.
الشاعر (عبد المنعم حمندي) حضر ومعه أساليب الإنشاد والتوقيع النغمي للشعر فحصل أن أقام الإتصال ولكنه هنا عبر تقنيات سماعية (شفاهية) مجردة بالغ فيها حد أنه إقترب في آخر وقت قراءته من ضجيج الإلقاء لا من تنغيماته ... وثمة سؤال عن عنصر النجاح الآخر في أجواء تلقي الشعر (إنشاداً) مفاده: هل الموسيقى وحدها هي الكافية لإدامة الإتصال أم جوانب النَص الأخرى؟ وهل أن الإتصال هو الفهم للنَص والمعايشة ومن ثم إقامة صلة رفض أو قبول له, أم أنه مجرد عبور حاجز التلقي والوصول الى ذهن الجمهرة الحاضرة؟ أنا أقصد هنا الإتصال بشِقيه, إجتياز المسافة وتقديم توطئة لإقامة علاقة مع المتلقي أياً كان نتيجتها سلبية أم إيجابية.
في الأمسية الثانية ... يمكن لنا أن نضع خمس قراءات في ثلاث خانات ... الأولى تضم (جان دمو) وحده، حيث لا صوت يوصل لنا شيئاً ولا نطق مفهوم، ولا روح شعر تحفزنا. ولولا ما نعرفه من ملامح وكلام كثير عن الشاعر لغالبنا شعور يشبه جلوسنا مجبرين على إقامة حوار مع شخصية تتحدث بلغة الصم والبكم أي المفهومات الإشارية ... هنا لا إتصال تماماً والصفة الوحيدة لحضور الجمهور كانت صفة إجتماعية محضة قائمة على نفوذ (جان دمو) في نفوس الأصدقاء من الشعراء والمريدين وعبر فيوضاته الروحية وتمرداتها، (كزار حنتوش) أحسن صنعاً حين قرأ نصَّاً يماثله شخصياً وفيه عناصر دعمت قوة الإتصال حين أحال النَص إهداءاً الى روح الشاعر (رشدي العامل)، فمدّ أكثر من جسر الى جمهرة الحاضرين، الإتصال قائم بين الشاعر وجمهوره أضف لذلك قوة الحضور الإجتماعي لإسم مثل (كزار حنتوس) ومرة أخرى مع جمهور تقصّد المجيء والإستماع لشعراء مثله.
والحس الإنفصالي تعمّق في حالة (نصيف الناصري) ومما زاد في إيقاد قوة الإنفعال كان في قراءة الشاعر لشيء من مذكراته لا من شعره حيث التمردات والإحباطات, الآمال، والتهكمات في وظائف اُجبر الشاعر على القيام بها خلال حياته، نتائج القراءة الإجتماعية/ الإنفصالية هذه منعكسة على الجمهور تمثلت بالرضا والفعل العكسي لمضمون القراءة (شاعر حزين – جمهور يضحك, شاعر يلغي كل شيء – جمهور مبتسم وتأخذه فرحة خفية, شاعر يناكد الوقائع الحياتية – جمهور يصفق)، الموضوعة تدخلت فيها عناصر أخرى إذن، لا موسيقى لا شعر (في الشكل على الأقل) ولكننا نجد قرابة روحية مع النَص الذي يلقيه الشاعر على الجمهور، هنا لا يمكن لنا أن نُبعد صفة التأثير والسطوة الإجتماعية والمضمون الساخن ... نعم الجمهور لم يزل يتفاعل مع المفردة والصورة التي تحرِّك الإحتجاج فيه، على المحظورات ضارباً بذلك بالكثير من توصيفات الحداثة وفنيتها.
(كزار ونصيف) في خانة ثانية تحدّثنا عن حضورها فيما شكل (حسن النواب وكريم شغيدل) خانة ثالثة، فهما حاولا الإشتغال فنياً على النَص الشعري وحاولا بدرجة أو بأخرى الإجتهاد في تقديمه شفاهياً الى الجمهور.
(حسن) إستعان بمؤثرات تاريخية/ دينية، وهذه لا شك من حضورها الفاعل في الوعي الضمني للجمهور، وظل يُطنب في التأكيد على حضور هذه الفاعلية فسقط نَصِّه في الفجاجة والمباشرة والتكرار، وظلت الإشارات الإجتماعية/ الدينية مجرد إعلانات خارجية حاول عبثاً الشاعر نقلها الى فاعلية نَصية لأنه إعتمد التأثير الصائت لا الهاديء المنقِّب في نسيج النَص، فيما أجهد (كريم شغيدل) نفسه في محاولة إيصال نَص قائم على محايثة لمواصفات النَص المحدث، إشارات عن فراغ وكينونة ومعنى وهذه تماماً تقاطع أبجديات الإتصال القائمة على حضور فاعل للمفردات كجرس ومعنى متضمن وعوامل إستثارة قد تكون خارجية تستحث الجمهور على إقامة إتصال معها.
تنويعات من نصوص ونماذج من الفاعليات الشعرية أعادتنا الى السؤال: أمام الجمهور أي النصوص تُحقق الإتصال؟ شعرنا المعاصر – نصوص النثر تحديداً – ما مدى حضورها كفاعلية عند المتلقي؟ وكتابتنا فيما تقدّم حاولت الإجابة أو هي إجتهدت في ذلك.
*6-9-1993
|