"إشراق" بحث في تجربة نصير شمّه الموسيقية والإنسانية (1)

تاريخ النشر       25/09/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير
 
المقدمة*
لم تكن مدينة الكوت الواقعة على دجلة 160 كيلومترا جنوبي شرق بغداد، والمطلة على بيئات اجتماعية متباينة بقوة : الحضرية، الريفية والبدوية، تحسب ان في نهار من العام 1963 سيولد في بقعة منها، موسيقي وعازف عود، سيكون الأشهر من بين العازفين الذين ارتبطوا  بالآلة العربية والشرقية  في مدرسة بغداد المعروفة، وليصبح مشروعا، بل نهجا موسيقيا عراقيا عربيا يطل بتوافق نغمي نادر على فضاء انساني عابر للحدود.
لم تكن الكوت الزاهية بالضوء وهو يلمع على نهرها "دجلة"، مثلما لم يكن الكاسب الدؤوب يعرف ان الشمس الصغيرة التي شعت في بيته، ستمضي في مدار غير الذي مضى اليه الأبناء، غير انه بالتأكيد تفاءل خيرا بقدوم هذا " النصير "، لاسيما ان الأحداث في البلاد تمضي الى مخاوف ورعب، ففي الثامن من شباط 1963، دخل العراق في تصفيات دموية وقتل البعثيون عشرات الآلاف من الشيوعيين وانصار عبد الكريم قاسم.
ولد نصير شمة في لحظة شديدة التوتر لا سيما انه من بيت  يقع في حي من المدينة، عرف بميول ساكنيه الشيوعية، وليس صدفة ان يكون هذا الهاجس من المخاوف لازم الموسيقي المجدد، كأنه تنفس القلق، وتشربت روحه مرارة السؤال، وابصر الغياب، وكأنه حتى في سنواته الأولى كان يتعجل المعرفة، ويتعجل ابتكار النغم، بل فهم الحياة كأن خوفا كان يطبق عليه، حتى اطمأنت روحه  قليلا، حين عرف  في العام 1977 الطريق الى معلمه الأول ( الأستاذ صاحب الناموس في النشاط الموسيقي المدرسي بمدينة الكوت ) على الآلة التي ستضنيه، مثلما ستكون لغته الفصيحة، ومثلما ستكون حديقته السرية المكتظة بالجميل والحميم من النغم.
ضاقت المدينة  الجنوبية بالشاب الطافح بالأمل، وتوسعت مدارك الفكر، ولكن ازدادت الروح عطشا، فالذهن متوقد والآمال فياضة والقلب ينبض لفرح عميق و خيول الأنغام  البرية تكاد تطيح بتوازنه من فرط نشوته وهو يسابقها وصولا الى بغداد والدراسة الأكاديمية في "معهد الدراسات النغمية " العام 1980.

ولم يكن مفاجئا لأستاذيه في فنون العزف على العود: علي الإمام ، وسالم عبد الكريم انهما حيال طالب استثنائي، فالبرنامج التعليمي الممتد على نحو ست سنوات اختصره الى اقل من ثلاث. هذا النحيل المخضّب بكل مافي العراق من شجن وقدرة على احتمال الألم،  فمن الجنوب واهله كان الشجن الجميل، ومن اهل كردستان حيث اصول "شمة"، كانت قدرة نصير على تحويل الألم طاقة ابدية لابتكار الموسيقى.


موسيقي شاب دون طيش ومتمهل دون رتابة
في منتصف ثمانينات  العقد الفائت وحين كان نصير تجاوز العشرين بالكاد، امكن لأهل الموسيقى في العراق ان يقدموا بفخر، وارث التقاليد العريقة لمدرسة العود العراقية، عازفهم  وموسيقيهم الشاب والمغامر دون طيش، والمتمهل دون رتابة، فهو في تلك الأيام لم يؤكد مهارات العزف بل بجرأة قارب التأليف الآلي الذي تفتقده الحياة الموسيقية في العراق والوطن العربي على حد سواء.
في سنوات الأمل تلك، امكن لنصير شمة ان يختصر مراحل لا طائل منها، ودائما بحسب مراسه الشخصي الصعب، فهو ظل دائما ينحت طريقه بجهد ودأب وبمبادرة فردية، لم يكن الآخرون الا ان ينظروا اليها باحترام، ومن هنا كان نصير اصغر عازف يمثل العراق في محافل وتظاهرات موسيقية في العالم العربي وفي اوروبا ( في احدى الحفلات بفرنسا اطلقت عليه الصحافة لقبا بدا متطابقا مع عناصر الموهبة والإصالة التي فيه، لقب " زرياب الصغير" )، مثلما كان نجح في ادارة " فرقة البيارق " التي سنجد لاحقا انها ضمت افضل المواهب الموسيقية العراقية الحقيقية .
وكانت المحطة الأردنية مهمة، حين لفت شمة  الإنتباه في جرش 1988 الى  اسلوبه الجديد في العزف على العود وفي تقديم اعمال موسيقية في المسرح والتلفزيون  منتمية الى احالات عصرها لكنها لاتخرج على جذورها الإسلوبية والفكرية. وبعد اقامة مثمرة في عمّان، عاد الى بغداد " اسيرا " بسبب " سوء فهم" مسؤول رسمي، وكاد الموسيقى الشاب يفقد حياته لـ "فرط الرقة " التي تمتعت بها ظروف احتجازه.

ردع الغضب بالمحبة
الشجن في موسيقاه، اخذه من بيئة الجنوب، احتمال الألم وتحويله الى حكمة، اخذه  من كردستان، ومن أروقة التحقيق، ورث الصمت العميق، و ردع الغضب بالمحبة. وهذه عناصر توازن متحكم، ان انفرط عقدها، ضاعت من بين يدي الموسيقي، جوهرة النغم.

شاهد عصر وشهيد فكرة
وأبن الرافدين الوفي، اختبر محبته لفضائه العراقي الرحيب في ايام المحنة، فاغتنت موسيقى شمة، رقة وفكرة، وتجديدا اسلوبيا  بما يوازي ثقل القذائف التي قصمت ظهر البلاد في حربها الدموية الثانية في اقل من 10 سنوات، ومن خضاب الدم والدموع، من القلوب المحطمة، والبيوت التي غيبتها الحرائق، ومن مشاهد الجنود القتلى المنسيين تحت سرفات " ام المعارك"، ومن حكايات الأطفال المجففة على حرائق جدران " ملجأ العامرية "،  خرج نصير من  البلاد، شاهد عصر وشهيد فكرة.
ومثلما كانت عمّان أنيسة وقريبة اليه اول مرة جاءها، كانت كذلك حين أحاط به الأصدقاء والمبدعون في إقامته الثانية فيها العام 1992، كأنهم عبر اللقاء به، كانوا يتأكدون من بقاء معالم كثيرة على قيد الحياة في العراق، لوفرة الموت الذي احاقت بالبلاد.
ومن عمّان الى تونس، حيث انصرف شمة الى مستويين تشكل منهما مرحلة مميزة من تجربته: العزف والتأليف عبر عشرات الأمسيات الموسيقية، وتدريس فنون العزف على العود في المعهد العالي للموسيقى. وتونس ليست مجرد اطلالة على المتوسط تثير المشرقي القادم من بلاد الأنهار، بل هي محطة للإتصال مع الآخر، وهكذا تمكن نصير من تقديم مشروعه الموسيقي بين فضاءات ثقافية غربية، وهكذا اكتسب فنه، علامات النضج والعمق .

روحية النغم قبل تقنيات عزفه
انه رغم علامات "تقنية" جديدة ادخلها في مذهبه بالعزف على العود: اضافة وتر جديد، العزف باصبع واحدة، الضرب على الاوتار بلا ريشة، الى غير ذلك من التجديدات والمهارات التقنية، غير انه يبقي مستمعه في فسحة التأثير الحميم للموسيقى: روحيتها وقدرتها على احداث تاثير في ذات الملتقى.
 انه يعي الفرق جيدا بين عازف على الة العود، ومبدع بالة العود، فتصبح المقامات العراقية اعتمادا على طريقته في العزف، لا مجرد اصول نغمية فحسب، بل تتشح بتعبيرية جديدة خارج "القولبة" وهذا يعود لمهارات شمة، وحركة الانامل الرشيقة وطريقته اللافتة في تطويع الريشة، والتي أصبح تاثيرها مقاربا لتأثير القوس على الأوتار في الالات الوترية الاخرى.
 ما دفع نصير الى التأليف الموسيقي، احساسه الدائم بفقدان حالات تعبيرية في آلته -اذ تعزف موسيقى اخرين-، وهذا مادفعه الى كتابة مقطوعات لالة العود تعكس ما في داخله من رؤى ومشاعر اولا، وتنقل نضج وخصب العلاقة التي كانت له مع العود ثانيا.
وما يحسب "للروحية" في فن نصير، بدا عميق الصلة بمن لم يلتق به وجها لوجه:  عازف العود والمؤلف الراحل  جميل بشير، وكانت اشكال الاتصال بينهما تبدأ من العزف الطليق المتحرر من قيود النمط، الى التأليف، ولا تنتهي بالإنتماء شديد الشفافية الى المدرسة البغدادية في العود، تلك التي ارسى دعائمها الفنان الراحل الشريف محيي الدين حيدر الذي اسس عام 1937 معهد الفنون الجميلة في بغداد.
قرابة كهذه، لا تعني عند نصير اعادة انتاج اعمال الموسيقار الراحل، رغم ان اثرا كالذي خلفه جميل بشير ليستحق الثناء كله، بل هو قريب له بمعنى ان تقنية العزف لايمكن ان تصنع فنانا على حساب الروحية، والاثنان اولياها عناية فائقة وهما حين طورا التقنية، فهما قصدا اعلاء الروحية اذ تحتاج قناة لايصالها بامانة وقوة تعبير.
ونصير شمة الطالع من ارث مدرسة العود البغدادية، والمخلص لبراعتها وروحيتها في آن، مرّ بالمراحل التي تختبر فيها المعادن الاصلية، فهو بعد تجاوزه صدمة الاكتشاف لعالم مبهر اسمه "العود" ذهب الى مرحلة توسيع الافتتان بافاق المعرفة، وحسب المعرفة واقترانها بالموهبة، وصل الى مرحلة التعبير عن الصدق الداخلي في انغام موسيقية مبتكره من وضعه.


نحو نغم موسيقي ... مثقف
والنغم عند نصير ليس تركيبا صوتيا وحسب، بل احد اهم اشكال الوعي، واخطر تجلياته وبالذات ماخص الموقف من قضايا وازمات تحيق بالإنسان، وتحجم دوره، هكذا ظل المأسور بعراقيته المجروحة والمعذبة، وهكذا تجد حفلاته الموسيقية، عناوين "تضامن" مع شعوب مقهورة، ومع افكار تستحق من الإنسان ان ينتصر لها.
ولم يجعل نصير من كل النجاح الذي حصده، امتيازا فرديا ، كان كافيا ليجعله اسير " نجومية " وان كان يستحقها، فهو ظل يعرض افكارا على مؤسسات ثقافية وفكرية عربية من شأنها تحقيق حلمه في تأسيس معهد لتعليم العزف على العود وصقل مواهب ومدارك، اجيال تقرأ الموسيقى العربية والشرقية باحترام تستحقه. وفي الوقت الذي كان شمة على وشك الإتفاق مع جامعة لندن، التي قررت تنفيذ المشروع، كان يأمل في ان تأتي المبادرة ولو بربع الإمكانيات من جهة عربية، وهو ما تحقق حين وافقت مستشارة دار الأوبرا المصرية والباحثة ومديرة مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الراحلة د. رتيبة الحفني على ان تستضيف دارها، " بيت العود العربي " الذي اضاء فيه نصير في العام 1998 شموعا كثيرة، صبر عليها كثيرا كي تضيْ المطرح وكي تتمكن من جذب محبي معرفة وفن راقيين.

صاحب " موسيقى صالة" عربية
وهكذا بدأ الموسيقار العراقي " مشواره المصري" بجدية ليست غريبة على من راهن على تحييد موقعه الفردي لصالح تجارب موسيقية، تؤكد الرفعة الفنية في ما تظهره، عنصرا من عناصر النجاح، فتوارى نصير خلف " عيون "، الفرقة التي اراد بها ان يؤكد على امكان قيام " موسيقى صالة" عربية تحترم ذائقة المتلقي وعقله و موروثه الوجداني، وبدرجة ليست اقل من رفعة هذا الشكل في الموسيقى الغربية.
اليوم يبدو نصير مطمئنا على نهجه، فمريدوه  في العزف على العود صاروا كثرا،  أي ان فكرته اضاءت واوصلت قبسها، ورسل الموسيقى العربية الأصيلة يعبرون الحدود كي يصلوا الى " بيت العود العربي " الذي صار بيوتا في غير عاصمة عربية، وليكتشفوا كم هي صغيرة بل وضيقة في مساحتها تلك البيوت، ولكن حولتها المعرفة والمحبة والصفاء مع النفس والفكرة الى بيوت فسيحة للنغم الجميل .
نصير كتب في اشكال موسيقية عدة، ما لايحصى من الأعمال، واحيى ايقونات موسيقية في مهرجانات العالم العربي، مثلما كانت انغامه عابرة للمحيطات، اتقن التعامل مع الأوركسترا، ولم يتردد عن ادخال صوت  العود  في اعمال سينمائية ومسرحية وتلفزيونية، صاغ الحانا مبهرة لقصائد من مختلف اجيال الشعر العربي المعاصر، وعبرها كان يتحدى اصواتا يكتشفها ويدخلها هو في "ريبرتواره" الموسيقي، كي تقول الجميل فيها والمغاير الذي يرقى الى الأسماع الرفيعة.
ولكونه صاحب نهج خاص في التعاطي مع الثقافة، فقد وجد في التراث الصوفي مايشفي غليله الى التعبير الصافي عن وجدان الإنسان في تحولاته، ومن هذا المدخل امتدت علاقاته العميقة مع ابرز مثقفي الوطن العربي، محاولا عبر الحوار معهم، ابتكار وسائل عملية، لجعل الموسيقى احدى مصادر الثقافة العربية المعاصرة.
ولم يبخل شمة على فكرته، لا بوقت ولا بدأب ، فكان اوقف ظهوره الموسيقي الفردي، لتكون " فرقة عيون " ثمرة بناء هندسي شاق، فيها أرقّ ما في الموروث العربي، مثلما فيها المبتكر والمتجدد ولكن الأصيل ايضا، فمؤلفات نصير التي تعزفها الفرقة  لاتحتاج جهدا كبيرا لإكتشاف كيف هذا تحول هذا الصانع الماهر من فتى يسابق المخاوف واسئلتها الى موسيقار عذب لاتتوه معها النفس.

الموسيقي المهاجر وجد وطنه الحقيقي
ونصير شمة جوّاب أمكنة بامتياز، أمكنة تنبثق من التاريخ، مثلما هي تنبثق من الراهن المأزوم وصولا الى امكنة لم تتعرف بعد على ايقاعها، وتلك الامكنة تنسج الاثر الانساني المطبوع عليها في موسيقى نصير، هي امكنة تبدأ من سهل بلاده الرسوبي كحاضنه لمعارف وحضارات اولى واشكال فنية راقية التعبير عن الهاجس الانساني-من ضمنها الموسيقى وكما خلدتها القيثارة السومرية- مرورا بأمكنة رحيبة يوم طبع العرب في الأندلس  بقاعا واقاليم بواحدة من صنائعهم الروحية الفريدة: الموسيقى، وصولا الى وقت لاهث، متقطع الانفاس، ينتمي اليها الموسيقي مختصرا خبرات ورؤى روحية متصلة "تشيد" عالمها رغم صوت "الهدم" المتصاعد ولن تكون بعيدة عن ملامح القادم من الوقت، اذ هو مجبول "بالرؤيا": أليس هو المنبثق من طين سهل رسوبي، كان فيه للبشرية سؤالها الوجودي الاول؟
الموسيقى المهاجر وجد وطنه الحقيقي: النغم الرفيع، وفيه خرج من جماليات العزف المتقن الى فسحة التأليف الرحيبة: انه عمل خلاق وفيه يستند نصير الى أساسين، الموهبة والمعرفة.
لايحتاج السامع لموسيقى نصير شمة، كثير فطنة، كي يكتشف انه يسمع موسيقى تتصل بالفكرة التي تمثل جوهر الفن: الروحية المفعمة بالصدق.

* مقدمة كتابي "إشراق- بحث في تجربة نصير شمّه الموسيقية والإنسانية" قيد الطبع

 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM