واشنطن- علي عبد الأمير*
لايبدو ان هناك احدا في أميركا بدا سعيدا مع دخول البلاد مرحلة الركود غير شتاينبك. هذه عبارة لافتة افتتحت بها مقالة في الملحق الثقافي لصحيفة "واشنطن بوست" تقرأ ظاهرة جديدة تمثلت بالاقبال الكبير على قراءة ادب الروائي الاميركي جون شتاينبك وبخاصة روايته "عناقيد الغضب" التي مر على نشرها اول مرة سبعون عاما ، وتصور عائلة اميركية في رحلة من ولاية اوكلاهوما الى ولاية كاليفورنيا بحثا عن فرص حياة افضل.
وفي المركز الوطني الاميركي للفنون، امكن ملاحظة تحقيق رواية "عناقيد الغضب" من ارقام في درجة الاقبال على قراءتها ضعف ما كانت عليه في العام الماضي. وفي مدينة جاكسون بولاية ميشيغان، قدّر أمناء المكتبات العامة أن أكثر من 2000 شخص سجلوا اسمائهم لقراءة الكتاب خلال شهر اذار الجاري كجزء من برنامج "القراءة الكبرى". بينما تقول المدرسة كيمبرلي رابيرت التي تقوم بتدريس الرواية لتلاميذ الصف الحادي عشر في المدرسة الثانوية الغربية بالمدينة ذاتها ، ان "الأزمة الاقتصادية الراهنة بمثابة هبة من السماء" في اشارة الى ان التلاميذ بدأوا مطابقة الوقائع التي تصورها "عناقيد الغضب" مع تلك التي بدأوا التعرف اليها مع عوائلهم والمتعلقة بما يعنيه الركود الاقتصادي للبلاد وانعكاساتها النفسية والاجتماعية.
ان الكاتب الحاصل على جائزة نوبل وصاحب الاعمال الأكثر مبيعا لم يكن حين وضع رواية "عناقيد الغضب" تضيي مساحة الامل على مواطنيه الذين كانوا عاشوا قسوة ايام " الركود الاقتصادي الكبير" في العام 1929 واستمرت نتائجه على امتداد سنوات عقد الثلاثينات، بل انه كتبها انطلاقا من رومانسية الخير الأخلاقية الأساسية التي تنبع من المحنة، ولأنه كان يكره القيم المادية في صعودها اثناء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
نقاد اميركيون يرون اليوم الامر ذاته في تحليلهم لظاهرة الاقبال على قراءة رواية "عناقيد الغضب" لشتاينبك مشيرين الى صعود القيم المادية المعقدة ذاتها التي حمل عليها الكاتب مع تنويههم الى ان " نكون مستعدين لتعلم درس أو اثنين من شتاينبك". والى اكثر من هذا تذهب الناقدة راشيل دراي في صحيفة "واشنطن بوست" وتقول "لو اننا امعنا النظر في ما كان يقوله شتاينبك خلال خمسينيات القرن الماضي وستينياته، ما كنا سنصل الى اوضاعنا السيئة الحالية" ! وكان شتاينبك بدأ يتابع القيم التي بات التلفزيون يعززها اجتماعيا لجهة تنشيط الجشع عبر الدعاية التجارية المتقنة فنيا، وكيف تحول الناس الى ساحة لعب مكشوفة كانوا فيها يركضون خلف تأمين حاجتهم لبضائع تختطف الابصار وليس بالضرورة انهم كانوا في حاجة ماسة اليها. وفيما تبدو الازمة الاقتصادية التي تعانيها أميركا سببا مباشرا في تسجيل رواية "عناقيد الغضب" ارقاما عالية في لوائح القراءة في المكتبات العامة الاميركية، الا ان القيم التي بشر فيها شتاينبك تظهر في اعمال اخرى غير ادبية وتنصح بقراءتها دراي، وتنتظم في الموضوع الرئيسي لشتاينبك: نقد القيم المادية المتطرفة في أميركا، مثل كتاب "شتاء استياءنا" ، "رحلات مع تشارلي في البحث عن اميركا" و"اميركا والاميركيون". ان العنوانات الثلاثة هذه توفر للقارىء الاميركي الفرصة لمعاينة قيم اللا مبالاة، الجشع، والفساد الأخلاقي ضمن رؤية لتشريح اميركا.
شتاينبك من الفصل الدراسي.. الى الحياة الطلبة الذي يدرسون رواية شتاينبك "عناقيد الغضب" بدأوا يطابقون بين اوضاعهم وعائلاتهم واوضاع ابطال الرواية الغاضبين من ظروفهم الحياتية الصعبة، ففي الصف الدراسي تبدد حديث الطلبة عن الكلية ليظهر حديث البحث عن فرصة عمل يمكن من خلالها مساعدة الآباء حتى ولو باجر منخفض، وفقدان العمل وفر ظروفا قاتمة من عدم اليقين بشأن المستقبل. وفي كتابه "رحلات مع تشارلي"، يتعرف القارىء الى مناطق مثل: يونجز تاون، كليفلاند، أكرون، توليدو، بونتياك، فلينت وغيرها وهي تبدو في اقصى تضخمها لجهة روعة الطاقة والانتاج، فيما هذه المناطق يخيم عليها الصمت هذه الايام!
جون شتاينبك: درس اخلاقي أميركي لم يقرأ جيدا
انه درس آخر من شتاينبك لم يأخذ بقوة وتقدير يستحقه حين قدمه في نهج اخلاقي قائم على التحذير من "تطرف" القيم المادية في اميركا، التطرف الذي باتت البلاد ضحية نموذجية له. وكان شتاينبك 1902- 1968 الحائز جائزة نوبل للآداب العام 1962 ولد في ساليناس بولاية كاليفورنيا من أصل ألماني، وانتسب إلى جامعة ستانفورد ليدرس علم الأحياء البحرية، ولكنه لم يكمل دراسته، فترك الجامعة ليعمل في ميادين مختلفة: عاملاً، جامعا للفواكه، مسَّاح أراضٍ، وحين أراد أن يقوم بأعمال حرة في مدينة المال نيويورك لم يفلح حين دخلت اميركا مرحلة "الكساد الكبير"، فعاد إلى كاليفورنيا ليتفرغ للكتابة. وكانت روايات "إلى إله مجهول" في العام 1933، "فئران ورجال" العام 1937، و"شرقي عدن" العام 1952 حازت شهرة واسعة الا ان روايته "عناقيد الغضب" العام 1939، ظلت الابرز في نتاجه الادبي والفكري، بل ان هناك من اعتبرها من بين مجموعة من الكتب التي غيَّرت مجرى العالم كالكتاب المقدّس، و"كوخ العم توم" "رأسمال المال" لماركس، و"هكذا تكلّم زرادشت لِنيْتشه".
* تقرير نشر في صحيفة "الغد" الأردنية 2009 التي كنت مراسلها في واشنطن تحت اسم "حسين الأمير".
|