علي عبد الأمير* في بدء صيف العام 2005 وحين كان العام الدراسي يوشك على نهايته قام أنصار رجل الدين الشيعي المتشدد مقتدى الصدر بالهجوم على طلبة كلية الهندسة في جامعة البصرة اثناء تنظيمهم رحلة الى حدائق الأندلس احتفالا بآخر العام الجامعي، واتهامهم بـ "ممارسات مخلة بتعاليم الإسلام". بعد يومين ذهبت طالبة الى اقرب وحدة عسكرية بريطانية وتحدثت مع ضابط العلاقات العامة بانجليزية متقنة عن مسؤوليتهم في حفظ الامن والدفاع عن حقوق الانسان التي جاءوا من اجل تثبيتها في العراق، بحسب اعلانات قوات التحالف التي كانت القوات البريطانية جزءا كبيرا منها ( نحو 30 الف جندي توزعوا بين البصرة، العمارة وقسم من الناصرية)، ودعت الجنود البريطانيين الى اخذ زمام المبادرة في كبح جماح المتشددين والجماعات الاسلامية الشيعية المتشددة. قابل الضابط البريطاني طلبها بكل "تهذيب" قبل ان يعود الى اجتماع كان يعقده صحبة ضباط آخرين مع ممثلين للاحزاب والقوى الشيعية للاتفاق على كيفية ادخال مرشحي تلك الاحزاب الى قوات الامن في البصرة ومناطق الجنوب الاخرى!
تلك " الحقيقة" ضاعت في تفاصيل ويوميات العنف العراقي لكنها كانت كافية لكشف نهج القوات البريطاني الذي وصل حد الاتفاق مع مسلحي "جيش المهدي" وغيره من المسلحة: اوقفوا اطلاق النار على قواتنا ولكم البصرة واهلها ومواردها. ومع تراجع البريطانيين المتواصل في العامين 2005، و2006 كان السيطرة الحقيقية يكشفها شعار كتب على احد جدران جامعة البصرة: "البصرة ستظل بصرة مقتدى"، وهو ما دفع باحد الطلبة الغاضبين الى ان يرى في ذلك تشابهاً مع شعار النظام السابق "البصرة تدين بالولاء للرئيس القائد".
وبعد نفي متواصل من سلطات المدينة لمسؤولية التنظيمات المسلحة الشيعية في البصرة (نحو عشرة تنظيمات) عن قتل عدد من الكتاب والصحافيين العراقيين والاجانب، اقرت تلك السلطات بمسؤولية مجموعة تطلق على نفسها تسمية "بقية الله" عن "اعمال خارجة عن القانون" ومنها حوادث قتل وجرائم زنا وسرقة للمال العام والخاص، ما حدا بالسلطات المحلية المدعومة بالقوات البريطانية الى مهاجمة مقر المجموعة واعتقال عدد من عناصرها المتهمين بالعمل لمصلحة دولة اجنبية(ايران). وحيال النشاط المتزايد للمجموعات المسلحة فان مكانة الدولة ومؤسساتها في البصرة كانت تتراجع، ولم يعد انصار تلك المجموعات يعترفون بالمحاكم المدنية، ويقومون بتحويل من يرون انه خرج على القانون الى "المحاكم الشرعية". وحول "سطوة" القوى الإسلامية المتشددة في البصرة كتب الأكاديمي العراقي كاظم حبيب في اواخر العام 2005 ان تلك «القوى هي التي تسيطر بالكامل على البصرة، وتفرض إرادتها على المجتمع عبر ميليشياتها وتهديداتها وقتلها للناس. وهي التي تهيمن على موازنة المحافظة وتتصرف بالموارد المالية التي تخصص لها، وهي التي ألغت الحياة الثقافية والفنية وحولت حياة أهل البصرة إلى "مآتم حسينية" وعزاء دائم، والمرجعية الحقيقية للمدينة ليست مرجعية السيد السيستاني بل مرشد الثورة الايرانية السيد علي خامنئي". وفي غضون عامي 2006 و2007 كان أهل البصرة (ممن لم يرتبطوا بميليشيا أو تنظيم)، يضعون أيديهم على قلوبهم، ويتخوفون من تحول العمل السياسي لكثير من التنظيمات والحركات الاسلامية المسيطرة على حياة المدينة الى عمل عسكري، حيث الانقسام والصراع على المصالح بين الاحزاب والحركات. وساهم قرار القوات البريطانية في زج عناصر ميليشيات تلك الاحزاب في الاجهزة الامنية، إضافة إلى الانسحاب شبه التام للحكومة المركزية من البصرة في منح القوى المتشددة قاعدة لوجستية وقانونية في التحكم الكامل في حياة ابناء المدينة والتصرف بموادرها من دون رقيب.. وكان المجلس الاعلى للثورة الاسلامية وذراعه العسكرية "منظمة بدر"، نشر منظماته السياسية والعسكرية من شمال القرنة حتى مدينة الفاو اقصى الجنوب، وزج بالكثير من أنصاره في أجهزة الشرطة التي يتقاسمها مناصفة مع "جيش المهدي" والذي بقى من اللاعبين الأكثر أهمية وتأثيراً في المشهد السياسي والامني في البصرة. كما ان له نفوذاً في مؤسسات الدولة الأخرى كالنفط والكهرباء والموانئ. ويشكل عناصر "جيش المهدي" قلقاً مستديماً ليس لقوات التحالف فحسب، بل حتى للأحزاب الدينية الأخرى للجوئهم الدائم للعنف والسلاح. وعلى رغم اعلان مقتدى الصدر عن اغلاق مكتبه في البصرة، لكن أنصاره لم يستجيبوا لندائه واستمروا في الواجهة للتصدي لما يعتقدونه مخالفاً لهم بالقوة والسلاح، حتى عمليات "صولة الفرسان" في ربيع العام 2008 حين بدأت الحكومة المركزية حملة عسكرية بقيادة المالكي لاعادة فرض الامن في البصرة. اما «حزب الفضيلة» الذي اسس بعد سقوط النظام من عراقيي الداخل، وحقق فوزاً كبيراً في الانتخابات البلدية 2004 مكّنه من الفوز بمنصب محافظ البصرة بالغالبية في الحكومة المحلية للمدينة، فانه وبعد تمكنه من السيطرة على الحكومة، ابتعد عن مواقفه المعتدلة، وراح يمد نفوذه، كبقية الأحزاب الإسلامية الشيعية، الى مفاصل مهمة وحيوية في الدوائر والمؤسسات المدنية والأمني، وارتبط اسمه بالكثير من الفساد في مجالات تهريب النفط والصراع على الموانىء. في البصرة، نشطت منظمات و مكاتب غير معروفة فتحت ابوابها ونشرت مسلحيها، وآخرها منظمة «بقية الله... اسود العراق» التي تكتب اسمها «بقيت» بالتاء المفتوحة والتي انشطرت عن «ثأر الله» و «حزب الله» و «شهيد الله» وهناك عشرات المنظمات الأخرى أو المكاتب التي تتخذ أسماء وشعارات دينية لعملها. وكان الصحافي الاميركي ستيفن فنسنت الذي اختطف في البصرة ووجدت جثته بعد ايام على اختطافه في آب (اغسطس) 2005 كتب ان "لا شيء يميز المنظمات عن بعضها بعضاً سوى شراستها واتقانها لعبة الدم. فليس هناك برنامج سياسي، واعضاء تلك المنظمات ليس لهم ادنى اهتمام بالشؤون السياسية والفكرية، ويجمعهم نشر الذعر بين السكان المدنيين والقيام بالاغتيالات التي تطال الجميع من عسكريين سابقين الى اساتذة جامعات الى شخصيات علمية الى صحافيين الى مغايرين مذهبياً أو دينياً، وصولاً إلى الاستيلاء على بعض المرافق الحيوية الاقتصادية كالموانئ والحدود وتهريب النفط والمعدات العسكرية". سياسيون وبرلمانيون من البصرة ظلوا يؤكدون ان ما ينشر عن البصرة «معلومات مضللة» مشددين: " انهم ابناء البصرة، ولا صحة لما يقال عن سطوة الاحزاب الدينية الشيعية في تسيير أمور المحافظة بعيداً من سيطرة الدولة"، مثلما كانوا ينفون "تدخل الاجهزة الامنية الايرانية في البصرة ودعمها المجموعات الدينية المسلحة". وفي سياق "ممارسات الجماعات الدينية كدليل على سلوك ثقافي قامع لحركة المجتمع، وان البلاد استبدلت ديكتاتورية السلطة السابقة بسلوك يستند الى ديكتاتورية دينية"، علق مهندس شاب من البصرة في ذروة سيطرة الجماعات المتشددة على مدينته: "أنا مواطن عراقي بصري أباً عن جد، عربي شيعي، وحاصل على درجه البكالوريوس من كليه الهندسة – جامعة البصرة، وعلى رغم مرور فترة على سقوط الصنم ( تمثال صدام) في ساحة الفردوس في بغداد، الا انني لا أستطيع التعبير عن رأيي بحرية فما تزال رهبة الأمن والحزب والاستخبارات موجودة، واستبدل اللون الزيتوني (البدلة العسكرية) بالعمامة البيضاء او السوداء، و استبدلت صور صدام بصور سلسلة الإئمة الصدريين (محمد باقر، محمد صادق واخيراً مقتدى)، واستبدل "جيش القدس" الذي أسسه صدام من اتباع حزبه بـ "جيش المهدي" الذي تفرعت عنه مجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
مدينة الانفتاح الاجتماعي تحت رحمة المتشددين! وكان الاسلاميون المتشددون بدأوا تضييقاً على الطلاب والاساتذة في الجامعات، من منع النشاطات الترفيهية والاجتماعية في جامعات البصرة والكوفة والرمادي وتكريت وصولاً الى اغتيال الاساتذة وخصوصاً من يوصفون بأنهم من «انصار النظام السابق» وتحديداً في جامعتي البصرة والكوفة. وحول هذه التحولات الثقافية والاجتماعية كان أستاذ في جامعة البصرة علق متسائلا: "هل يسير العراق على نهج طالبان؟ وهل سنستبدل سياسة قطع الألسن والآذان التي انتهجها النظام البائد، بسياسة القتل والارهاب والتعذيب وتكسير الأيدي والأرجل لتطبيق الشريعة فنجعل الناس ينفرون من الاسلام؟ ونتساءل هنا ما الذي استفاد منه الشعب أصلاً من التغيير؟ وما الذي تحقق له بعد اسقاط الصنم والنظام البائد؟ النفوذ المتصاعد للإسلاميين في العراق والمتشددين منهم بوجه خاص في البصرة التي لطالما كانت في خمسينيات القرن العشرين وستينياته بل حتى سبعينياته رمزا للانفتاح الاجتماعي والثقافي: سكانها عرب شيعة وسنة، مسلمون، مسيحيون وصابئة، حوّل المدينة الى "امارة طالبان" ولكن على الطراز الشيعي، وزاد هذا النفوذ وطأة وشراسة ما يسميه ابناء البصرة، "تخاذل" البريطانيين حين آثروا سلامة جنودهم بان يتركوا المدينة واهلها وثرواتها نهبا لقوى متشددة كان اغلب عناصرها يستمدون ثقافتهم وافكارهم من احزاب تدين بالولاء لايران وتتلقى دعمها العسكري والسياسي والمادي منها، غير ان هذا النهج البريطاني "المتخاذل" لم يفلح فخسرت في العام 2007 ثقة اهل البصرة العاديين، مثلما خسرت "سلامة جنودها" حين لم يحترم المسلحون الشيعة المرتبطون بايران اتفاقهم مع البريطانيين وراحوا يمطرون قاعدتين في "مطار البصرة" و"قصر صدام" بسيل يومي من الصواريخ، لحين بدء العمليات العسكرية العراقية التي لم تنقذ اهل البصرة من المتشددين وحسب، بل انقذت البريطانيين ايضا والذين اضطروا الى تقديم اسناد جوي ومدفعي للقوات العراقية التي كانت تتوغل داخل الاحياء التي كانت تعتبر معاقل لمجموعات "الخارجين على القانون"، وسط عتاب شديد وجه رئيس الوزراء نوري المالكي لقائد القوات البريطانية هناك محملا اياه مسؤولية تسليم البصرة الى مجموعات مسلحة تعمل ضد القانون والدولة . وفي حين وقعت لندن وبغداد وثائق الانسحاب من البصرة، لم يشعر اهالي مدينة الخليل بن احمد الفراهيدي بذكرى طيبة لجنود الملكة، بل ان تحسن الامن في البصرة وما صاحبه من استعادة نسبية لروح المدينة، (بات الموسيقيون يشهرون الحانهم والتجار يعرضون ملابس حديثة والحلاقون يقصون الشعر وفق تسريحات غربية، والنساء يخرجن الى الشوارع للتبضع او للنزهة على شط العراب، وهذه كانت من الممنوعات والمحرمات) كان قرينا بالقوات العراقية وعملياتها التي وضعت حدا لنفوذ مجموعات مسلحة خارجة على القانون، ترعرت وتثبتت نفوذها بمباركة او صمت من القوات البريطاينة.
* تقرير نشر في صحيفة "الغد" الأردنية 2009 التي كنت مراسلها في واشنطن تحت اسم "حسين الأمير". |