"حال الإنكار"، تعني تعبيرا نفسانيا هو، "رفض الاعتراف بما يبدو صحيحا وحقيقيا ونفيه، بل الاصرار على انه غير صحيح، رغم ما قد تكون أدلة دامغة، تؤكد وجوده".
التعبير الفرويدي الأصل، استخدمه الصحافي الأميركي الشهير بوب وودورد، صاحب التحقيق الذي هزّ البيت الأبيض والذي أطاح بالرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون، ليضعه عنوانا لكتاب جاء جزءا ثالثا لسلسلة بعنوان "جورج بوش في الحرب".
وعلى جاري عادته، أثار وودورد، ضجة مستحقة، ليس أقلها، أدلة دامغة على ان "الرئيس جورج بوش كذب على الاميركيين عندما قال لهم ان غزو العراق لن يستغرق فترة طويلة" وكان حين صدر الكتاب خريف العام 2006، "قد استغرق فترة طويلة". ووفق هذا المنوال يثبت المؤلف "حال الإنكار" التي يعيشها رئيسه، فهو حين قال للأميركيين بعد ايام من اسقاط نظام صدام، ان " المهمة انجزت"، أنكر ان المهمة تواصلت متعثرة، بل هي "لم تنجز حتى الآن"! وحين ظل يكرر، بعد ان سقطت بين يديه ذريعة "اسلحة الدمار الشامل"، ان "الهدف من حرب العراق هو القضاء على الارهاب"، كانت تلك الحرب، سببا جوهريا في انتشار الإرهاب ليس على كل العراق وحسب، بل الى المنطقة، حد ان ما رسمه وودورد، يكاد يتطابق مع حال اميركا الحائرة الآن مع "داعش" في العراق وسوريا.
بوب وودورد وكتابه "حال إنكار"
صاحب كتاب "الإخوان" (1979) والذي كشف "جوانب شخصية تتعلق بأعضاء المحكمة العليا الاميركية التي تتولى تفسير الدستور"، و كتاب "الحجاب" (1987) عن انكار الرئيس ريغان معرفته ان بعض وزرائه ومستشاريه اتفقوا سرا مع ايران لتزويدها باسلحة اميركية عن طريق سمسار اسرائيلي" ضمن ما عرف لاحقا بـ"إيران غيت"، وكادت ان تتسبب في استقالة الرئيس، ظل دؤوبا على ان يقدم في كتابه، وصفا لحال إنكار الرئيس بوش لحقيقة ما كانت القوات الاميركية تواجهه من "تمرد مسلح"، فضلا عن الأهوال التي يعانيها العراقيون على يد الاميركيين والمتمردين ضمن المجموعات الارهابية على حد سواء، إذ كان بوش يرفض أن "يصدق أو يستوعب الأنباء السيئة"، حتى وإن كان مصدرها "البنتاغون" او الخارجية، ناصحا بان تظل حبيسة الأدراج تحت تصنيف "سري للغاية".
"الإنكار العراقي": نسخة اسوأ من الأصل الأميركي
"حال الإنكار" انتقلت، حد انها ترسخت كحال مرضية، من بوش الى مخلوقاته العراقية، وابرزها رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي ظل يرفض الاعتراف، بانه والى جانبه القادة الفاشلين والفاسدين في مكتبه العسكري، مسؤولون عن الهزيمة المذلة للجيش العراقي في العاشر من حزيران الماضي، بل زاد في الإنكار حين ظل يردد ان قواته "استعادت زمام المبادرة وراحت توجه الضربة تلو الاخرى لمواقع الارهابيين"، ليس هذا وحسب، بل إنكار مكتبه ومستشاريه ووزرائه لوجود إعتقالات خارج القانون وأي انتهاكات للحريات، حتى تلك التي توثقها مؤسسات حليفه الاميركي، فضلا عنه انه وفيما حكومته ودولته غاطستان حد الهامة في مستنقع رذائل الفساد، ظل ينكر ان تكون هناك في مؤسساته مؤشرات حقيقة على وجود فساد، على الرغم من ان هذا ثابت وبالإدلة القاطعة.
في سياق الحديث عن مستنقع الفساد الذي يكاد يكون بمساحة الدولة العراقية، حكومة وبرلمانا وقضاء ومؤسسات عسكرية، ادار الزميل سعدون ضمد، أمس في برنامج "بالعراقي" عبر "الحرة عراق"، حوارا لافتا عن جديد الحكومة والبرلمان فيما يتعلق بالفساد، ليظهر للمشاهد ان مخلوقات بوش وابرزها المالكي، استنسخت في مستويات اقل مرتبة لجهة التأثير والمنصب، لكنها ليست أقل مرضا في عاهة "حال الإنكار".
في الحلقة ذاتها، تابعنا، سجّاد على معتوق، مدير العمليات في "هيئة النزاهة" التي كانت مستقلة حتى الانقلاب الذي قام بها "دولة رئيس الوزراء" 2011 بمساعدة "المحكمة الاتحادية" لتصبح واحدة من اكثر من عشر مؤسسات تابعة له وتعمل باشرافه الشخصي. والرجل (معتوق) مثال لمريض حقيقي بعاهة "حال الإنكار"، فهو يرد على حقائق كان يقدمها الخبير الاقتصادي د. ماجد الصوري المستلة من "أدلة دامغة" توفرها سجلات دائرة الرقابة المالية، وتقارير موثقة عن فساد واسع طال حتى المؤسسة العسكرية (وهو ما دلّت عليه الهزيمة المذلة لاركان تلك المؤسسة منذ العاشر من حزيران الماضي)، بأنها "مبالغات" وان "لا فساد حقيقيا في العراق بل اشكالا بسيطة من الرشوة في الدوائر الخدمية".
والمريض الآخر بالعاهة ذاتها، والذي قدمته حلقة "بالعراقي"، كان عضو "لجنة النزاهة" البرلمانية، النائب طه الدفاعي، الذي فضلا عن اطروحة ان "الفساد ليس جديدا في العراق، بل هو ممتد من النظام السابق، وانه منتشر في المنطقة والعالم" (تبريره هذا يشبه حال حرامي يبرر فعلته بان هناك كثيرين على شاكلته)، راح يؤكد ان " لا وجود لظاهرة اسمها بيع المناصب الحكومية المدنية والعسكرية، بل انها مجرد إشاعات"، وليقدم لنا مؤشرات على ان عمل لجنته سيكون متطابقا مع عاهته: "حال الإنكار".
ما ظل دالا على مرض الرجلين، وعاهتهما الفتاكة، هو اداء محكم وبارع للخبير الاقتصادي د. الصوري، فضلا عن ادارة سلسلة للحوار تولاها الزميل ضمد، كأنهما كانا يقدمان وصفة لعلاج من مرض بوش ومخلوقاته العراقية.
* قصة صحافية نشرتها وكالة "واي نيوز" 18-9-2014