مقالات  



في الجوهر العراقي الجميل لهاني فحص (1946-2014)

تاريخ النشر       19/09/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*

قضى أبن القطب الجنوبي اللبناني، مدينة النبطية، السيد هاني فحص نحو عقد في العراق، حين وصل إلى النجف الأشرف عام 1963، وهو ابن السابعة عشرة،  للدراسة في حوزتها الدينية، لينال شهادة جامعية اولية في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من "كلية الفقه" هناك، ثم ليعود الى مسقط رأسه في العام 1972.
هو إذن في لجة العاصفة العراقية، فقد وصل الى البلاد يوم كانت تغرق في بحر الانتقام البعثي الرهيب من الشيوعيين وانصار الزعيم عبد الكريم قاسم ( انقلاب 8 شباط 1963)، ثم ليشهد اكتمال مشهد العسكرتاريا الجمهورية القبيح ( جمهورية عبد السلام عارف 1963- 1966)، ثم بعض الإنفراج السياسي والفكري الذي مثلته (جمهورية عبد الرحمن عارف 1966-1968)، لينهي سنواته التكوينية العراقية الاولى عبر سنوات من حكم البعث، كأنه انتهى من حيث ابتدأ وجوده في البلاد والتكوين الديني والثقافي والاجتماعي.


 
واذا كانت ستينيات القرن الماضي، هي عقد الثورة الاجتماعية والثقافية والأدبية على نحو خاص على مدار العالم، فانها عراقيا عمّقت هذه المعاني في تيار فكري تجديدي لم يوفر حتى قلاع الفكر "المحافظ"، كما هي مدينة النجف الاشرف، ومنها صعد تيار حداثوي في الفكر السياسي والادبي، ترك للثقافة العراقية علامة فارقة شكلتها مجلة "الكلمة" صاحبة النشأة النجفية، تحريرا وطباعة، لكنها عبرت في جرأتها وروحها التجديدية، حدود السياق المحافظ للمدينة لتصل آفاقا وطنية وعربية لاحقة.
هاني فحص استغرق عميقا في هذا المشهد، حتى وإن صار مشرفا على مجلة "النجف" التي كانت مخلصة لنهجها الديني المحافظ، وكان لجو المدينة والعراق الصاخب، أدبيا وثقافيا، ولأصوله العائلية الضاربة في علاقتها بالادب وبالشعر بخاصة، تأثير جعله ينجو من العاصفة الرهيبة سياسة وانتقاما رهيبا، ليدخل لجة اخرى هي عاصفة أدب بلاد الرافدين وثقافتها، وهي العاصفة التي أحسن رفقتها حتى رقت اخيرا له، لتغدو علاقات معرفية وانسانية رافقته عميقة حتى آخر أيامه، واثمرت كتابه الصادر عن دار "المدى" وحمل عنوان "ماض لا يمضي- ذكريات و مكوّنات عراقية".
بنبرة حانية، ولهفة كان يأتي حديث السيد هاني فحص عن العراق، عن أعلام فكره وشعره وعلومه وأدبه وفنونه. وكأن ما عاشه ليس مجرد عقد صاخب، بل يبدو في حديثه وتقليب صفحات تجاربه، كأنه يمتد عميقا الى ارض طاف عليها مسلمون وقبلهم مسيحيون وقبلهم يهود، وقبلهم جيمعا، بناة الإرث الرافديني الفذ، دون ان ينسى كل شاردة وواردة في تاريخ بلاد علي الوردي، بل ثمة من يصفه بأنه "يعرف العراق أكثر من العراقيين"، وهو في كل حديث مع  جمهرة شبان وشابات كانت تتحلق حول مجلسه، كان يدعو الى ان "يعرفوا العراق أكثر مما يعرفون عنه الآن من َمَذْهب وحقد ودم وكراهية وكآبة ويأس"، عراق ما بعد العام 2003 الذين زاره مرارا وكان يزيده في كل مرة أسى وعذابا.
السيد هاني فحص، يستعيد في "ما ض لا يمضي" تجارب و"تحوّلات عاشها واختبرها في خلال وجوده في العراق للتحصيل العلمي والديني، ومؤكّداً انتماءه العراقي انطلاقاً من قوله "لم أجد ورقة منها تخلو من واقعة أو حقيقة عراقية في نسيجي الروحي والذهني والمعرفي والأدبي والجسدي"، مشيراً إلى أن هذا لا يعني أنه "أسير العراق" بل "نتاج عراقي أيضاً، أولاً أو ثانياً"، ومعتبراً أن هناك صعوبة في التفريق بدقّة بين اللبناني والعراقي "لأنهما يتمازجان ويتكافآن في إعطاء حبري لونه ودمي نكهته، ويضعانني في حالة من الالتباس اللبناني العراقي الجميل".
الحنو في لغته ونبرته، لا يخفي "المتمرّد" في شخصيته، ومن هنا فهو لا يقدم العراق متوافقا مع "العمامة"، حتى وإن بدت ملامح العراق بعد العام 2003، وقد تلحفت بالعمامة فكرة وسياسة ومنهجا محافظا، هو ظل يصر على العراق المتمدن، حتى وإن كان ابن الإرث الديني النجفي!
و"المتمرد" في هاني فحص، عميق ومتمرس وأصيل، فهو يترجم المعنى الجوهري للثقافة بوصفها مفارقة للسائد القبيح، حتى وإن كان "مقدسا"، ولا شيء اكثر قبحا من تيار الطائفية السائد في العراق، وهو ما ظل يحذر منه، بل يعارضه بقوة، حدّ انه كان من الجرأة بمكان حين ربط بين الطائفية والدولة القمعية، مؤكدا ان الدولة الطائفية ستنتهي الى ديكتاتورية قبيحة حتى وإن كانت محاطة بهالة قدسية.
من هنا ليس سرا ان يكون هاني فحص، الداعم القوي للثورة الايرانية، يوم قيامها، أحد ابرز معارضي سياساتها حتى أيام قبل رحيله، لا لولع شخصي بفكرة المتمرد او المعارض، بل توافقا مع فكره القائم على معارضة الظلم والتعسف، ووعيه الذي يؤكد ان اي سلطة حاكمة هي نقيض للنقد، حتى وإن كانت تستمد "شرعيتها" من الله او الدين او الطائفة. ومن هنا ايضا، جاءت تحذيراته من تعسف الطائفة الشيعية في العراق وقبلها في لبنان، ففي الاخيرة جرّت عليه مواقفه الجرئية تلك، اتهامات واساءات قل نظيرها، وتحديدا من معسكر "حزب الله" القوة المناقضة لفكرة الدولة، وثم شقيقه في العراق: معسكر المليشيات ومقاولي الموت والنهب من الطائفيين الشيعة الحاكمين الذين ما انفكوا يرون في  اصحاب فكرة مثل السيد الراحل هاني فحص، شرا مستطيرا، و"علمانية كافرة" حتى وإن كانوا يعلمون علم اليقين، انه الراسخ في الدين، علما وتقوى وفضائل، وانه الأقرب، في نهجه المخلص للحرية والتمرد على الظلم، الى جدّه "السيد المجتبى".

* مقالة مكتوبة لملحق "المدى " الخاص بالراحل  20-9-2014



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM