علي عبد الأمير عجام* في مقهى الليبراليين والصحافيين والمثقفين، بالعاصمة الاميركية واشنطن، "باص بويز أند بويتيس" ( شعراء وجرسونات) الذي يملكه آندي (أنس) شلال، المرشح السابق لعمدة المدينة وهو ابن دبلوماسي عراقي شهير، مسرح صغير للعروض الثقافية والفنية، وعلى جدار كبير فيه، تتوزع صور لابرز مناهضي الحرب في اميركا والعالم، ومن الذين عرفوا بثقافة "المقاومة السلمية"، ومن بينهم ثمة صورة للمغنية والناشطة والشاعرة، جوان باييز.
سأل صاحب السطور، الناشط أنس شلال، فيما اذا كان يعرف سرا حميما عن جوان باييز، يتعلق بجانب بغدادي في حياتها الشخصية، فأجاب بالنفي، فجاءت الحكاية: في العام 1941 ولدت جوان باييز لابوين اميركيين من اصل مكسيكي، وحين بلغت العاشرة (1951) حطّت رحالها مع عائلتها في بغداد، التي كانت تستقطب ابرز خبرات العالم في شتى الاختصاصات، ولما كان والدها آل باييز، عالما فذا في مجال الاشعة والفيزياء، فأنتدب لمنظمة العلوم والثقافة الدولية (يونسكو)، من اجل تأسيس قسم الفيزياء بكلية العلوم في جامعة بغداد. كانت سنة "عجيبة" لعائلة هذا العالم، حد ان الابوين اصدرا في العام 1988، كتابا عنها حمل عنوان "سنة في بغداد"، اعتبراها "سنة ساعدت على بلورة قيم الأسرة".
المغنية جوان باييز في بواكير رحلتها الفنية وفي الاطار ملامحها في العقد الأخير
في تلك الاجواء العراقية، كانت الصغيرة جوان باييز (10 سنوات)، تخط رسومها للبيئة الجديدة، وقد توزعتها صورة الوالدين في مزيج من الانسجام العائلي. فيما كان الاب ألبرت باييز، يركز على وصف عمله كأستاذ الفيزياء، بينما زوجته تسعى جاهدة لخلق الراحة الاسرية في منزلهم ببغداد، ومد الصلة مع الجيران العراقيين، فضلا عن سرد لحكايات مثل الاشتباك مع قرويين رفضوا قيام العائلة بتصوير موقع تاريخي. الكتاب الذي تظهر فيه بعض الملامح البغدادية للمغنية الشهيرة لاحقا، وابرزها رسوماتها وتخطيطاتها، يبدو كنزا من الذكريات الشخصية لعائلة باييز، والتحديات المهنية والانسانية التي عاشتها في بغداد، وبالرغم من صعوبتها فان النتائج كانت ممتعة ولا تنسى.
في بغداد ثانية ولكن بعد 20 عاما حين عرض فيلم "ساكو وفانزيتي" في سينما سمير أميس اوائل سبعينيات القرن الماضي.. خرج كثيرون وهم يسألون عن موسيقى الفيلم ( وضعها ابرز مؤلفي الموسيقى التصويرية في عصرنا، الايطالي الاصل اينيو ماركوني) ومغنيته (جوان باييز)، فالجمهور تلك الايام، تصدق عليه عبارة "جمهور مثقف"، بل ان الفيلم كان منسجما مع اجواء الانفتاح الفكري والسياسي (اليساري) في البلاد، وهناك من شاهد الفيلم الذي غنت فيه باييز اكثير من مقطوعة تصف عذاب نيقولا ساكو (1891- 1927) وبرتولومو فانزيتي (1888- 1927)، وهما عاملان من اصول ايطالية كانا هاجرا باكراً الى الولايات المتحدة، فانخرط اولهما في التيارات الاشتراكية ثم الفوضوية بعد ان كان جمهوري النزعة اول الأمر، في ما عانق الثاني الأفكار اليسارية باكراً... ولقد وُجّه الإتهام الى الاثنين في العام 1920 بقتل موظفين في شركة كانا يعملان فيها. واستمرت محاكمتهما طوال ما يقرب من ثماني سنوات، تراكمت خلالها شهادات لصالحهما تبرئهما من التهمة. ويرى الناقد السينمائي والكاتب الصحافي اللبناني ابراهيم العريس، ان "السلطات (الاميركية) كانت في حاجة الى كبش محرقة، والى توجيه الإتهام الى أناس معروفين بنزعتهم الإشتراكية لزرع الخوف من "الخطر الأحمر" في البلاد. وهكذا، على رغم الإحتجاجات المحلية والعالمية، وعلى رغم ان كل القرائن لم تثبت أبداً ارتكاب ساكو وفانزيتي الجريمة، تم اعدامهما يوم 22 آب 1927، وسط تظاهرات احتجاج عمت العالم كله". واذا كان "رهط كبير من الفنانين والمفكرين والسياسيين الأميركيين، رأى في ذلك الإعدام عاراً ما بعده عار طاول العقلية الأميركية وبالتالي الحلم الأميركي كله"، فان الفيلم الذي اخرجه جوليانو مونتالدو، وقام بالدور الرئيس فيه، الممثل القدير جان ماريا فولونتي، تضمن اعمق تاثير روحي عبر نسيج موسيقي وغنائي من نوع خاص، اكدت فيه باييز انها منسجمة تماما مع افكارها الخاصة بالمقاومة السلمية والدفاع عن "الحقوق المدنية"، لاسيما ان (ساكو وفانزيتي) هما نموذج عميق ومؤثر لذلك الشكل من المقاومة. مع اغنياته في الفيلم، عادت جوان باييز ثانية الى بغداد التي جاءتها صبية حائرة العام 1951، ولكنها هذه المرة بملامح الفنانة الموسيقية والكاتبة التي سيكون اسمها لاحقا حاضرا في ذاكرة الثقافة العراقية والانسانية، عبر نحو 20 اسطوانة، ما تزال تشع من بينها اسطوانة " الألماس والصدأ".
* نشرت في "واي نيوز" |