نقد أدبي  



1986: قصائد زاهر الجيزاني الأخيرة وإعلانها الشعري

تاريخ النشر       10/09/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير*
 
في تتبع المسار التطوري لأي شاعر, يمكن ملاحظة التحول عن النهج العام لنمطه الشعري, أو ما يمكن تسميته بالنزوع نحو فضاء آخر غير الذي سكن فيه طويلاً وكان له ما يشبه المدار.
هذا الانفصال عن (الكادر) الذي تم تشييده، وفق عناءات وتصورات التجربة التي حاول الشاعر (أي شاعر) ترسيخ مفهومه للتطور الشعري خلالها، توفره قراءة قصائد الشاعر زاهر الجيزاني، التي نشرت بدءاً من هذا العام, وفيها تلك الإشارات التي تدل بما يشبه اليقين على أن الشاعر وجد طريقة أخرى لترجمة رؤياه للعالم والأشياء في علاقاتها البنائية, الواضحة والمستترة, تلك الرؤيا التي شغلته طويلاً.
 

زاهر الجيزاني: تحول لافت في مساره الشعري منذ العام 1986

فمن نمط أقرب للمثالية والتجريد الذهني والتأمل الفكري الشامل إلى تدفق حياتي لا يشي بوضوحه بشكل مباشر, إنه – على ما أعتقد انتقال في وعي الشاعر لمهمة القصيدة إن لم يكن إعلاناً شعرياً جديداً, اختزن فيه الشاعر قوة التجدد ودخلها بوعي وقدرة على مستويين يتوزعان القصيدة, شكلها الأكثر هدوءا والأبعد عن التجريبية ومضمونها الأكثر عمقا، والذي يختزن حيوية الأشياء ويظهرها بجمالها الخفي عبر رموزها ودلالاتها, فيه يعود الشاعر من رحلته الفكرية التجريدية إلى نَص يتناول فيه الوقائع والتعامل معها وفق منظور جمالي ظل حيوياً رافضاً لسبات تلك الوقائع وسكونها التام.
 ما الذي جاء بالشاعر لكل هذا؟ كيف انتهى إلى يقين كهذا؟ أسئلة دائماً, والقليل من الأجوبة!

ما الشعر؟ ما ارتهانه بالحياة؟ ما الحياة ذاتها؟
إن (أزمة) واضطراب المفهوم المتداول والشائع عن النَص الشعري الحديث ومهمته, فضلا عن اغتراب يرسّخ وجوده في العلاقة بين الشاعر والمتلقي والنماذج غير الشعرية وركامها غير المقروء, والتجريب العابث ونكوص التجربة الشعرية الأحدث (جيل السبعينيات) وما تلاه, كلها وقفت كمسببات لإعادة السؤال الأكثر وضوحاً والذي يخشاه أي شاعر في أعمق فتراته نضجاً, ما الشعر؟ ما ارتهانه بالحياة؟ ما الحياة ذاتها؟ أسئلة تقود في إعادة ترتيب إجاباتها إلى خلخلة في بُنى الشاعر الفكرية وبالتالي (إعادة تنظيم) كل التجربة الشعرية والعودة إلى المناهل الأولى.
     إن جملة التغييرات تلك وما وقف خلفها من مسببات قد نجدها قريبة للتحول الشعري في قصائد "زاهر" الأخيرة, والشاعر، بإدراك تام للعملية وتفاصيلها، واجه الأسئلة وفتح سبلاً تعينه (تعيننا) للوصول إلى ما يربط الرموز تلك, إلى وعي مهمة الشعر, وتراها واضحة انشغالاته الجادة في ذلك, وإلا لأصبح كل الموضوع مجرد رغبة عابثة (للتجديد), لكن "زاهر" وبعمق, يتلو قصائده, وبلغة أنهت علاقة مربكة بموضوعها البلاغي التقليدي, فبدت صافية ومتألقة, حيوية تحمل فوضى انغمار الروح الإنسانية في اشتباكها وعناءاتها مع الأشياء, ومن هنا فهي جديدة في قاموس الشاعر اللغوي, فاتحة مع انسجامها التشكيلي, جواً لم يزل يحتفظ بلمسة من غموض وتأمل, قصدها الشاعر كي يعيد ترتيب أطراف المهمة الشعرية ويضع المتلقي في حدود المسؤولية المنطقية في إعادة السؤال والانشغال في البحث عن إجابة ما.

دلالات ومؤشرات لقصيدة جديدة
     إن البناء العالي الحرفة والاهتمام (الشكلاني) البالغ في قصائد "زاهر" المعتادة, لا نجده هنا في قصائده الأحدث, فهي تبدأ بتخطيط واضح لكن دون شكل يتقصده الشاعر, فالموضوع يجد في حواره من خلال توالي الأبيات والرؤى, ما يبعث على اكتساب جدوى لم تحققه تلك الحرفة العالية التي امتازت بها قصائد الشاعر ذات الهم التأملي – الكوني, ومن هنا تبدو قوة انجاز الشاعر في أثر تتركه القصيدة وتخلق إيحاءات تشير لعناءات كتابتها, وتنمو وسط موضوعها وتحافظ على مستوى فكرتها وتشذب ذاتها, في ذات الوقت التي تكون فيه قد اكتسبت حلمها الرؤيوي وحققته بتدفق حياتي عذب.

هامش:
"القصائد الأخيرة" هي:
(1) نبيذ أو عام 1986.
(2) مساء ثقافي.
(3) قرنفل (نشرت في جريدة الجمهورية).
(4) الظهيرة (نشرت في جريدة القادسية).

*نشرت المقالة في مجلة "فنون" العدد 304 (1986) دون ان تحمل أسمي، بتصرف من المحرر الذي كان يرى في إسمي ناقدا فنيا وحسب، لكنه نشر المقالة اعجابا بها!  


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM