علي عبد الأمير عجام* حين ارتطم تمثال الرئيس العراقي صدام حسين على ارض " ساحة الفردوس" ببغداد ، كان صوت الحطام اعلى من نحو الف اغنية ولحن صاغها مطربون وملحنون عراقيون وعرب عملت على اختزال الوطن بصورة "القائد الفذ"، ومع الصخب المدوي لارتطام النحاس على الارض، بدا العراقيون "عراة" لجهة ان لا اغنية يمكن ان تثير فيهم مشاعر "وطنية" من نوع ما، فـ"الاغنية الوطنية" تداعت لتتضاءل في "اغنية حماسية" رسخها مدّاحو النظام السابق من مغنين وشعراء وملحنين.
كان صعود اغنيات مديح الطغيان مترافقا مع تراجع الانتاج الغنائي والموسيقي الطبيعي الذي كانت الأسماع في العراق تعرفت الى مراحل عدة فيه، وتراكمت خبرات موسيقية ولحنية ما لبثت ان التحقت بالمؤسسة الاعلامية والثقافية للسلطات الحاكمة واصبحت خاضعة لتوجهاتها، وهو ما بدأ بشكل تدريجي منذ انقلاب العام 1968 وصولا الى سيطرة الرئيس السابق صدام حسين على السلطة، وبدء مرحلة الغناء " التعبوي" مع الحرب على ايران 1980. سقوط الديكتاتورية كشف عن حقيقة مريعة، هي ان الوطن في الموسيقى العراقية لم يكن حاضرا، ومن النادر ان يكون العراقيون ومنذ العام 1980 عرفوا اغنية تحضر فيها صورة البلاد واهلها، واكتشفوا ان نشيد" بلادي" الذي كان رمزا موسيقيا لمصر حين انتقلت من الناصرية الى الانفتاح الساداتي وما اعقبه، لا نظير عراقيا له، وحين راح الموسيقيون يبحثون عن مثال اقرب الى الذي طبعه سيد درويش، لم يجدوا في الذاكرة غير "موطني" النشيد الذي كانت اجيال كثيرة من العراقيين حفظته عبر درس النشيد المدرسي. اللافت في النشيد انه ليس عراقيا فقد كتبه الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان، ووضع لحنه اللبنانيان الاخوان فليفل فيما فات اولئك الموسيقيين ذلك اللحن الآسر الذي وضعه وغناه المطرب العراقي احمد الخليل، وحمل روحا "وطنية" كان صاغها اعتمادا على نص تتكرر لازمته "كن قويا موطني كن بهيا موطني ... ياموطني يا يا موطني" اقرب الى الاغنية العاطفية لجهة الوجدان الغامر في اللحن والكلمات. اكتشاف العراقيين غياب الاعمال الموسيقية والغنائية التي تكون مشتركا وطنيا بينهم، كان مترافقا مع عمق ازمة الهوية الوطنية بين مكوناتهم وهو ما سيصبح لا حقا تهديدا جديا لبقاء بلادهم موحدة، وما عمّق ذلك الغياب صعود قوى التشدد الاسلامي (شيعية وسنية) ومعها دخلت البلاد مرحلة بات فيها تحريم الموسيقى والغناء اقرب الى الامر الواقع. هذا القحط، تجلى بقوة امس في نهار تحرير آمرلي، فاذا كانت هناك حقائق تقول ان "كل العراق شارك في نصر المدينة الشجاعة"، الا انه كحدث ظل يبحث عن لحن وطني رصين يليق به، لا تلك الاناشيد المصنوعة لـ"دولة رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة"، والتي ظلت اسيرة "مديح قائد" و"مديح قواته الخاصة" لا "مديح وطن". مثلما ظل الحدث يبحث عن نشيد يرتقي الى مستوى الوطن، وليس تلك العشرات مما هي في مستوى تعبيري منخفض وبائس، ذوقيا ولحنيا، حين تستعير الرموز والدلالات الطائفية وتعلي، دون ان تدري، قيم الموت والدم، على الرغم من كونها تقصد مواجهة القوى التي تنتهج مسارا متصلا بقيم العنف المضادة للحياة. العراق اليوم ... يتيم من "اغنية وطنية" تليق بروحه المتجددة والخلاقة.
* نشرت في وكالة "واي نيوز" 1-9-2014 |