(الأسلمة السياسية في العراق)": رؤية نفسية لمرحلة الانحطاط لما بعد 2003

تاريخ النشر       02/09/2014 06:00 AM



اربيل(اقليم كردستان العراق)- علي عبد الامير*
 هذا كتاب نادر، بل يكاد يرقى في موضوعه الفريد الى ان يكون دليلا لا غنى عنه، لتتبع المسار الرهيب الذي عاشه المجتمع العراقي، فكريا وسياسيا وانسانيا منذ العام 2003.
كتاب "الأسلمة السياسية في العراق" للباحث الدكتور فارس كمال نظمي، الصادر حديثا عن مؤسسة "المدى"، يقارب المسار الذي ذهب فيه الاسلام السياسي ليكون حارق بخور للانهيارات الرهيبة التي عاشتها الدولة العراقية المعاصرة، وليتتم ما كان الحق بها النظام الديكتاتوري السابق، من تدمير منهجي، ومع ذلك "الاسلام السياسي " المنسجم مع غزو اميركي رهيب، يكون العراق "افتتح القرن الواحد والعشرين بتجربة الدين السياسي الحاكم. اذ سقط نظامه الاستبدادي السابق على يد حملة عسكرية غازية قادها جيش الولايات المتحدة الامريكية في نيسان 2003م. وانبثق بأثرها ما صار يعرف بنظام "الطائفية السياسية" القائم على اساس ديني بالدرجة الاولى وعرقي بالدرجة الثانية. اذ طفا المد الديني– السياسي. وأمسكت الاحزاب اللاهوتية بدفة السلطة في الجزء العربي من العراق - ظل اقليم كردستان محكوما بأحزاب قومية علمانية- وألحقت مصير البلاد والبشر بقوى ما وراء الطبيعة التي تدعي وصلا بها".
هذا ما يضعنا فيه نظمي، عبر رحلة مضنية لجهة تلمسها قوة الهدم لمؤسسات الدولة العراقية، واعلاء كيان طائفي انقسامي عدائي لذاته قبل الاخرين، فنقرأ "سيكولوجية المنطقة الخضراء"، حيث رمز السلطة الاميركية- العراقية التي تولت هدم ما تبقى من اعمدة الدولة، واطلاقها العنان لوحشية "المقهورين" و"المظلومين"، نهبا وقتلا وتشريدا.

 


انه ينتقل من التقصي النفسي لوجوه "المنطقة الخضراء" ورموزها وسياساتها، ليعري اركان الشخصية العراقية من شتى الاتجاهات الاجتماعية والفكرية والسياسية، فثمة وقفة  لدراسة "النزعة العلمانية في الشخصية العراقية" ونقدها ايضا، فضلا عن ام الصفات "النزعة الماسوشية في العقلية العراقية"، مرورا بتحليل ثنائية الدين – العشيرة التي ظلت ركنا حارسا للقيم المعطلة للحداثة والعلمية عبر فصل "سيكولوجية العمامة واليشماغ"، وصولا الى نقد ملامح التهتك الاخلاقي والفكري في الشخصية العراقية، دولة وحكومة ومجتمع " سيكولوجية مواكب السلطة في شوارع بغداد"، "ازمة الضمير المهني لدى الفرد العراقي"، "الفساد الاكاديمي في الجامعات العراقية"، "جدل الاهانة والكبرياء في الحياة العراقية"، "سيكولوجية قطع الكهرباء عن الروح العراقية"، "الهوية البغدادية .. ماذا تبقى منها؟"، "تحليل الشخصية الشيعية العراقية"، "تحليل الشخصية الشيوعية العراقية"، وغيرها من القراءات النادرة، مثل "تحليل الشخصية المسيحية العراقية"، وهو فصل يخرج بشجاعة من تاريخية الندب والمنظور "الاقلوي" الى فضاء القراءة الفكرية- الاجتماعية العميق.
وبما ان الكتاب هو في بحث "الاسلمة" كفكر ونهج سياسي، فقد تضمن فصلين ملحقين، يدرسان الظاهرة في تجلياتها العربية القريبة من العراق، "لماذا تسقط ثمار الثورات العربية المدنية في سلة الاسلام السياسي؟" و"سيكولوجية المواجهة بين الاسلام السياسي الصاعد واليسار العربي المنحسر".
وليس غريبا ان يبدو المحور الفكري للبحث وتقصياته، وقد انصبّ على تتبع ما الذي تعنيه تلك "الاسلمة" بطابعها القسري، وتشكله من تحديات تكاد تواجه، اعتمادا على سلطة الديني المقدس، قضية الحرية، والكرامة الانسانية في مجتمع بدا متعطشا اليهما، بعد ان ظلت تلك القضيتان تتعرضان الى انتهاك منظم على يد الدولة الوطنية ( العلمانية) ممثلة بانظمة الانقلابات والحروب والقمع منذ اعلان النظام الجمهورية في العام 1958.
واذا كانت تلك الانظمة "الوطنية" اهانت ايما اهانة، جانبي الحرية والكرامة في المسار الاجتماعي والنفسي والثقافي للشخصية العراقية، فأن "الاسلمة السياسية افلحت في تحقيقه في العراق، اذ دفعت العراقيين قسرا الى اعادة تصنيف ذواتهم الاجتماعية على اسس طائفية – وحتى عرقية- ما قبل مدنية، منسحبين من ساحة التنافس السياسي على اسس البرامج المدنية الاصلاحية، ليتمترسوا في حلبة الصراع السياسي على اسس الامارات الطائفية والمناطقية المتنازعة"، بل هو يصل في مستويات نقده لـ" الأسلمة السياسية في العراق" حد اعتبارها احتلالا متزامنا مع الاحتلال الاميركي، وهو ما سنعرض اليه لاحقا.
هذا مآل مأسوي تدميري، اقرب الى المنهجة السياسية والفكرية، يقصي المفهوم الشائع التقليدي، عن "قدرية" ما عاشته الشخصية العراقية، وفظاظتها في السلوك والوعي، ومقاربتها العنف فكرا وممارسة، بل هي تجاهد ما أمكنها ذلك، على ان تظل "تكتنز الكثير من عناصر التماهي الوطني العقلاني"، فيما يعتبره الباحث نظمي، مقدمات تتطلب الانتباه والاستمرار فيها لتحويلها مع غيرها الى وقائع تقود الدفاع عن ما تبقى من عقلانية وان بدت شفاهية،  وصولا الى تغيير يبدو متعثرا ومرتبكا إن لم نقل خجولا.
في رثاء القيم المدنية
عبر فصل أثير، اجتهد الباحث في تتابع المسار التدميري الذي تعرضت له قيم المدنية في العراق، وعاصمته بغداد بخاصة، فهو يرى "ازدهرت الرموز المدينية لبغداد في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، لغةً وثقافةً وعمارةً، حينما سادت النخبوية السياسية التكنوقراطية إلى حد كبير، وحينما تطورت السلطة الاجتماعية إلى حد إنها وجدت أنّ لا تعارض بين القيم الدينية والممارسات الجمالية في مجمل الحياة اليومية للأسرة العراقية" مستدركا "أما اليوم، فنجد انحساراً مريراً في الطابع الحداثوي للمدينة العراقية -باستثناء مدن إقليم كردستان- إذ يجري كل يوم تجريف قدرتها على إنتاج الأنسنة، بل تقويض هويتها حد التصحر، وتغييب علاماتها الدالة على تلاقح التأريخ بالمكان. ويُعزى هذا التجريف إلى المحو المنظم الذي تعرضت له الذاكرة التأريخية العراقية، على يد احتلالين خضع لهما المجتمع العراقي المديني خلال العقد الأخير: الغزو الأمريكي، وسلطة الأسلمة السياسية".
وإذ يكون السلوك السياسي اليومي في العراق "غير مفهوم ويتجاوز حدود العقل"، وقائم على أن "السلطة السياسية في العراق تعتبر بحسب التصنيف الأكاديمي هي سلطة إسلام سياسي او دين سياسي"، فأنه "خيار يقع بالضد من النزعة العلمانية الاجتماعية الراسخة للمجتمع العراقي(....)"، فيؤكد الباحث ان "احد الأسباب الرئيسة المفسرة لمسلسل الصراع السياسي الدموي في العراق يتمثل في نزعة الأحزاب الدينية الحاكمة فيه لتشكيل المجتمع على شاكلتها، أي محاولة تطييفه قسرا عبر اخراجه من هويته المسلمة المسالمة بمذهبيها المتعايشين، وإدخاله في هوية تأسلمية متعصبة بمذهبيها المتصارعين".
هنا يصل الباحث الى جوهر ما آلت اليه "الأسلمة السياسية في العراق": صناعة العنف ويوميات القتل والرعب والتدمير الكلي لمؤسسات الدولة المعاصر، وهذا جوهر فكرة قلما وصل الى تثبيته كاتب او باحث بشؤون عراق ما بعد العام 2003، اللهم الا اذا توقفنا عند مبحث نفسي- سوسيولوجي آخر للقضية ذاتها، انبرى اليه بشجاعة ايضا، استاذ علم النفس الدكتور قاسم حسين صالح.
ويظل الباحث الدكتور فارس كمال نظمي، وهو عضو "الجمعية الأوروبية لعلم النفس الاجتماعي"، و"جمعية العلوم النفسية الأميركية"، و"الجمعية الدولية لأبحاث العدالة"، من نوع نادر مثلما هو كتابه، نوع الباحثين (الحالمين) بعيدا عن صرامة الكواليس الاكاديمية، فله  كتب "المحرومون في العراق"، "مقالات ودراسات في الشخصية العراقية"، "الحب الرومانسي بين الفلسفة وعلم النفس"، ومجموعة شعرية بعنوان "سنحاول إن نزهر"، ومن هنا بحثه يأتي حالما بأفق انساني رحيب.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM