في الطريق الى قداس مسيحيي الموصل: أبقوا الأرواح في البيوت الوحيدة

تاريخ النشر       02/09/2014 06:00 AM


برطلة (قرب الموصل)- علي عبد الأمير*
نحو برطلة، البلدة الآشورية الكبيرة في" سهل نينوى"، والواقعة شرقي الموصل التي باتت في براثن "داعش"، عليك ان تقضي اكثر من ساعة من اربيل (عاصمة اقليم كردستان شبه المستقل عن العراق)، كي تصل الى المدينة صاحبة المنزلة المرموقة في تاريخ الكنيسة السريانية، لما انجبته من بطاركة ومطارنة، ورهبان وعلماء وأدباء وشعراء، وخطاطين عززوا مكانتها بين الكهنوت المسيحي العراق والمشرقي بعامة.
وفيما ينقضي " أول يوم أحد بعد خلو مدينة الموصل من المسيحيين، واختفت بخروجهم اصوات التراتيل الكنسية، حيث يعد اليوم الأول منذ مئات السنين ونينوى بلا تراتيل ولا اصوات لاجراس كنائسها"(1)، كان الطريق الى قداس المهجرين بعنوان هو "درب الالام" نحو برطلة.
هناك تحدث (ابو مريم )، الى "ذوات" فيما صار وجهه محتقنا فرط العذاب والخوف اللذين عاشهما في طريق الهروب من مدينته: الموصل، قائلا: "لم تكن قضيتي هي الابرز انما ما حزّ في نفسي، هو ابن عمتي المقعد المشلول الذي فقد القدرة على تحريك اطرافه السفلى، ووصل الى نقطة التفتيش الاخيرة الخاضعة لـ"داعش" التي تتولى الاستيلاء على كل ممتلكات المسيحي المهجر، وافزعنا انهم امروه بالنزول من السيارة وتركها عندهم، حتى مع توسلاته " انني مقعد والسيارة هي يداي ورجلاي"، وهنا لم نملك سوى حمله الى مسافة ليست بالقصيرة حتى بيوت اقاربنا ومعارفنا في برطلة".
بطريرك الكلدان في العراق والعالم لويس ساكو، يلفت الى إنه "لأول مرة في تاريخ العراق تفرغ الموصل الآن من المسيحيين"، مضيفاً أن "مغادرة المسيحيين لثاني أكبر مدن العراق التي تضم نحو 30 كنيسة يعود تاريخ بعضها إلى نحو 1500 سنة، تعني الكثير لبلاد الرافدين وسكانها الاصليين"  في اشارة الى الاشوريين والكلدان قبل اعتناقهم دين يسوع.

"مطردون.. مخذلون"
الصحافي العراقي ماجد عزيزة كتب وهو يغادر مع اهله المسيحيين، نصا يختلط فيها الالم بالشكوى، والغضب بالمرارة، فيقول "نشكركم ... ونحن نغادر مطرودين ... ونحن نغادر مدينتنا الموصل مطرودين وقد أذلنا حاملو راية الاسلام الجديد، نغادرها لأول مرة في التاريخ، لابد لنا في هذا الموقف ان نقدم شكرنا لأهلنا فيها، أهلنا الذين كنا نعتقد بأنهم سيحمونا كما كانوا يفعلون، وسيقفون بوجه عتاة مجرمي القرن الحادي والعشرين ويقولون لهم ان هؤلاء هم الأصلاء وهم الذين اسسوا هذه المدينة، كنا نطمئن النفس في ان لنا جارا عزيزا، وابن محلة شهما، واخوان تبرز اخلاقهم يوم الشدة ..لكننا خذلنا ونحن نغادر، خذلنا ونحن نسحب أجسادنا سحبا نحو المجهول، خذلنا ونحن نترك كل تاريخنا وقبور آبائنا وأجدادنا ورموزنا وآثارنا وكل شيء عزيز علينا" .
وعلى منوال التأسي هذا يمضي في كلمته مستعيدا الامكنة الموصلية التي عاشها واهله مع مسلميها "وداعا نقولها، لمحلات الساعة والجولاق والدندان وباب لكش وباب الجديد وباب الطوب، وداعا لجامع النبي يونس والنبي شيت، وداعا للسرجخانه وسوق العتمي والقناطر وجسر العتيق وعبدو خوب، وداعا لقصر المطران وكنيسة مسكنتة وعين كبريت، وداعا لشارع الفاروق وشارع نينوى والدواسة، وداعا لعبد الباسط ابو السندويج، وطرشي الشفاء وشارع النجفي .. وداعا لكم جميعا فستفتقدونا في الاعياد والمناسبات، ستفتدقونا في الأفراح والأحزان".
الخوف وحش كاسر
وينقل من تجمعوا في برطلة من نازحي الموصل المسيحيين، حكايات عن اهلهم الساكنين في احياء ومناطق مترامية حول الموصل، ومنها ما اطلعت عليه "ذوات"، فيقول صاحبها في رسالة الى صديق "نحن نسكن في قرية تبعد 40 كم عن مركز المدينة (الموصل)، لم يصلنا الدواعش بعد الا اننا خائفون جدا لاحول ولا قوة لنا، مترددين بين ان نخرج من القرية او البقاء فيها. نتمنى الموت حتى نخلص من الخوف والرعب، حتى ابني يسألني شنو بابا احسن للواحد يموت بالطلق لو بالسكين".
وللكشف عن تفاصيل دقيقة عن لحظة التهجير القاسية، يورد المهندس نزار، المسيحي ابن الموصل ان "ملتحين اجانب بجلابيات وسراويل في سيارات مدججة بالسلاح دخلوا الموصل وكأنهم قادمون من الفضاء ... في نفس الوقت تبخّر الجيش والشرطة في ساعات .... أعلنوا حضر التجوال لمدة ثلاثة ايام خرجنا بعدها لنجد انفسنا، كأننا لسنا في الموصل، بل في احد قرى الجزيرة العربية في صدر الإسلام ... إستولوا على كل شيء ثم سلموا المدينة لشباب من الموصل كانوا جاهزين للمهمة ... معظمنا لم يفق من الصدمة لغاية الآن .... الرواتب توقفت وإعطينا إجازات الى إشعار آخر ... الكهرباء ساعتان فقط يوميا ... لا وقود للسيارات ... لا أراجيل ... تم تحجيب المانيكانات في محلات الازياء... تم ابلاغنا ان نرحل دون ان نأخذ أي شيء من بيوتنا، تركنا سياراتنا، وايامنا وذكرياتنا في بيوتنا الوحيدة،  فيما طائرات الحكومة العراقية تحوم فوق المشهد الرهيب، تضرب قذيفتين او ثلاثة وتختفي"(2).
 


 
لكن هناك من العراقيين من يلفت الى حقائق تختلط فيها مشاعر الغضب والاستنكار بالحقيقة، فثمة من يوضح ان "من تم تهجيره من الداخل العراقي ( البصرة وبغداد ومناطق اخرى وسط البلاد وجنوبها) من المسيحيين، أضعاف مضاعفة ممن هجروا من الموصل بسبب هيمنة الميليشيات والعصابات المسلحة والهوس الديني وغياب القانون العادل وفرض نمط الدولة الدينية، ولا يختلف تفريغ الداخل العراقي من المسيحيين عما تقوم بها عصابات "داعش" سوى بالعلنية، اما التضامن اللفظي فهو لا يقدم ولا يؤخر ما دامت آلية الحكم هي ذاتها، خاصة والتهجير الطائفي والعرقي والديني على قدم وساق في كل محافظات العراق".
وعلى هذا الايقاع الغاضب يتساءل الناشط والكاتب العراقي حسين مهاوي " تُرى ماذا سيقول المسلمون لو أنّ البلدان التي تسود فيها الديانة المسيحيةعاملت ملايين المسلمين اللاجئين اليها من بطش اخوانهم، والمنعمين بما توفره لهم من امن و حياة رغيدة، كما يُعامل المسيحيون اليوم عندنا على يد دعاة الدين المزيفين؟ ".
مسيحي في "قصة هذا الوطن"
ويورد الكاتب الصحافي المعروف علي حسين قصة مؤثرة عن واحد من اعلام العراق في التصوير الفوتوغرافي، ابن الموصل، أمري سليم لوسيان، الذي "حين قرر ان يترك الموصل، كان الارمن في بغداد يقطنون أحياءهم الخاصة "كمب الارمن" و"كمب سارة "، في عالم خاص بهم، يحرصون على ان يتم كل شيء داخل دائرة من المحبة وبشيء من الإتقان، واذا ما فكرت يوما ان تذهب الى مصور فوتوغرافي فحتما ستجد الارمن يزينون شارعي السعدون والرشيد بمحال تصوير أنيقة وصغيرة فتقف أمام ارشاك اوهاكوبيان اوارام اوكاكا او امري سليم ، تضع يدك في جيب السروال وبعد يومين أو ثلاثة تتسلم صورة و لا تصدق هل انت صاحب هذه الابتسامة ام انها لشخص أكثر وسامة ونضارة ؟ ، اما اذا دفعك غرورك الى ان تذهب باتجاه المصور " جان " صاحب "ستوديو بابل" فان صور المشاهير والحكام التي تملأ فاترينة المحل تدفعك لان تتحسس جيوبك وانت تحلم بان يلعب القدر لعبته فتجد صورتك يوما تتوسط هؤلاء الإعلام، ومع انتشار الصحف في بغداد، ازدهرت الصورة الفوتوغرافية أيضاً، وطبعا كان امري واخوته هناك لا ينافسهم احد وكان في الطليعة من هؤلاء ارشاك الذي كان شاعر الكاميرا، وقد علمها كيف تحكي قصة هذا الوطن".
وفي "قصة هذا الوطن"، والقول دائما للكاتب حسين، "ثمة علاقة محبة ومودة بين المسيحيين والعمل المتقن، وعندما ترك امري سليم الموصل الى بغداد كان ارشاك قد سبقه الى هناك ليعمل مصوراً طبعا، غير ان امري سليم سيصبح أشهر مصور وجوه في الصحافة العراقية وبين الوجوه التي رسمها بعدسته صور الملك فيصل الثاني ونوري سعيد وحافظ الدروبي والقبانجي والصحفي بدر شاكر السياب لكن الأهم صور، عفيفة اسكندر ولميعة توفيق وسليمة مراد وزهور حسين واحلام وهبي ووحيدة خليل وهيفاء حسين حيث ارتبط امري بعلاقة مودة مع كل مطربات بغداد".
امري سليم، الارمني ابن الموصل، " حين اجمع البغداديون على مناداته بلقب حاج، فان ذلك يؤكد ان المسيحيين لم يكونوا جسما غريبا في العراق، وان لهم في كل ذرة من أرضه لمسة وذكرى".
واذا كانت "نون" علامة لاستيلاء "داعش" على بيوت "النصارى" وجعلها من "عقارات الدولة الاسلامية" (الصورة)، فان كثيرا من كتاب العراق ومثقفيه وناشطيه المدافعين عن الحريات، اختاروا " ن" صورة شخصية لهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وابرزها "فيسبوك"، فيما يعود الكاتب علي حسين، ملوحا بالسلام للبناة من مسيحيي بلاده :" سلام عليكم أيها الآباء الطيبين، سلام على العراق وهو يلوذ بكم حاملا صليبه، سلام على الكرملي وفهد وكوركيس عواد ورفائيل بطي وعبد المسيح ثروت، وعمو بابا وعفيفة اسكندر، فستظل ملامحكم تختلط بملامح اهلنا، فيا ابناء جلدتي، كلانا سينتصر في النهاية، وسنظل نغني مع القبانجي(اشهر مطربي المقام العراقي): يا نصارى إش صار بيكم..؟ ..


هوامش:
(1): قصة صحافية في "واي نيوز" الاليكترونية العراقية
(2): للمزيد من اهوال ما عاشته العوائل المسيحية المهجرة في الموصل وكيفية معاملتهم من قبل بعض اهالي المدينة، تابعوا التقرير المتلفز  التالي عبر الرابط ادناه:
http://www.youtube.com/watch?v=IxQqQyD5D9o&feature=youtu.be

* نشرت في موقع "ذوات" الثقافي العربي الذي يحرره الزميل الدكتور موسى برهومة



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM