1
لم اعرف احمد المهنا الا في العام 1996 عبر مقال، بدا مهما لجهة ردع الصفاقة الثقافية والسياسية في المجتمع الذي شكلته المعارضة العراقية لنظام صدام حسين، فهو كتب في "الحياة" ردا عميقا ليس على صحيفة "المؤتمر" (لسان حال التجمع الفضفاض الذي انضوت تحته تنظيمات اساسية معارضة للحكم الديكتاتوري)، ولا على رئيس تحريرها (حينها)، محمد عبد الجبار الشبوط، بل على التهافت الذي انطوت عليه الصحيفة وخطابها واساليب ادارتها، ما دفع بالمهنا الى الاستقالة من عمله فيها. كان المقال اشارة مبكرة الى "حرية" عميقة انطوى عليها صاحب الكتاب المهم "الإنسان و الفكرة"، وكابد من اجلها وظلت دالة عليه، اسما وفكرة ونهج عمل في غير وسيلة اعلامية.
2
وفي اواخر العام 1997، بدأت بالعمل في مكتب صحيفة "الشرق الاوسط" بالعاصمة الاردنية مراسلا للشؤون العراقية، ومن بين ما كنت اخص الصحيفة به من تقارير اخبارية، كان الحيز الذي تشكله المعاناة الانسانية الرهيبة للعراقيين تحت وطأة الحصار، وعن ظاهرة لجوء اعداد غير قليلة من عراقيي "الطبقة المتوسطة" الى بيع مقتنياتهم الشخصية، تأمينا لعيش بدا علقما، كتبت تقريرا حمل عنوان" كل هؤلاء العراقيين يبيعون ... فمن يشتري؟"، ووصل الى صفحة "منوعات" التي نشرته مع صورة لقلب بغداد ورمزها "نصب الحرية" لاسيما ان التحقيق كان يتناول مركز بيع المقتنيات الاكثر نشاطا: الباب الشرقي. وتلقيت في اليوم ذاته اتصالا، من مقر الصحيفة الرئيس بلندن، كان فيه محرر الصفحة يبحث عن كاتب التحقيق ويحاول معرفته عن قرب. كان هو احمد المهنا بلطف حديثه ودفء مشاعره، مثنيا على نهج الكتابة ومستفسرا عن سبب عدم توقيع اسمي مع المادة، اذ كان مدير المكتب وهو شخص سعودي يرفض وضع اسماء الصحافيين على التقارير المرسلة من مكتب عمّان، وتحديدا اسمي الدال على هوية "طائفية" لم يكن على وفاق معها. كانت حرية الكاتب كما في مقال المهنا الاول، سببا كي اعرف صاحبنا الوسيم، مثلما كان الوجع الانساني العراق والكتابة عنه، سببا لتعميق الثقة وتوطيدها بيننا.
3
غادرت "الشرق الاوسط" الى "الحياة" ومثلي غادرها احمد المهنا، الى العمل التلفزيوني، وتحديدا في قناة "ابو ظبي" عبر برنامجه الشائق في اسلوب عرضه للحكايات التاريخية والمعاصرة في المنطقة " بين زمنين". وبسبب عمله في البرنامج ذاك، حلّ علينا في عمّان متقصيا اثر شخصية عربية كان بصدد اعداد حلقة من برنامجه عنها. وفي اللقاء الموثق بالعناق والاشواق الحرى، عرفني المهنا على عمّان اخرى لم اعرفها من قبل، على الرغم من كونني اسكنها واعمل في مؤسساتها الصحافية منذ سنوات: عمّان في الليل، فعرفت معها اماكن سهر ومرح حتى الفجر، حد اننا تناولنا الفطور في اكثر من مرة بمطاعم الكباب وقد تعتعنا السهر و"ملحقاته" الروحية، في ايقاع لم اعهده من قبل، ايقاع ينتمي الى "شهوة الحياة" واختبار لذائذها واطيابها. في عمّان تعرفت عميقا على احمد المهنا، كشخصية تقبل على مباهج الحياة باناقة وكرم باذخ.
4
في عمّان، التقينا مرة اخرى، وتحديدا قبيل سقوط النظام العراقي السابق، وكان مشغولا هو وصديقه الاقرب اليه المخرج الشاعر رعد مشتت، بتحقيق حلمها الشخصي: الدخول الى البلاد وتصوير المشاهد الاخيرة للنظام الذي حرث البلاد بالخوف والرعب والجوع والقهر... وهو ما تمكنا من انجاز بعضه لاحقا، اذ صورا مشاهد عودتهما وزميليهما في "ابو ظبي" نجاح محمد علي وجاسم العزاوي، بطريقة مقاربة الامال مع الواقع الذي سيتحول كابوسا مفتوحا على اهوال مرعبة، لكن الفيلم الوثائقي ظل نشيدا عن حرية عمل من اجل المهنا بنقاء قل نظيره.
5
سبقته في الوصول الى بغداد، وسعى المهنا بعد اتفاقه مع مدير قناة "الحرة" التي كانت قيد التأسيس، واذاعة "سوا" الزميل الكبير موفق حرب، الى ان اترك العمل في "سوا" التي ادرت مكتبها ببغداد منذ الايام الاولى لسقوط نظام صدام حتى الشهر العاشر 2003 ، واتولى مسؤولية قسم الاخبار في مكتب القناة فيما يتولى هو ادارة قسم البرامج، واتفقنا على ان ابدأ العمل في الاثنين 17-5-2004 بعد ان انهي ارتباطي بكل عمل صحافي اندرجت فيه، غير ان طلقات غادرة اخترقت رأس اخي ومعلمي ونبراسي المفكر والناقد قاسم عبد الامير عجام في صبيحة اليوم ذاته، كانت قد انهت الفكرة بمجملها. لكنني كنت قريبا منه لسنوات عبر عملي مديرا لتحرير الاخبار العراقية في مقر "الحرة" بواشنطن، وكان ابرعنا في التقاط القضايا المهمة والبارزة في ايام البلاد العاصفة، اكان في التغطيات المطولة ام في البرامج الحوارية والثقافية، اذ كنت رشحت له اسم الكاتب والناقد محمد غازي الاخرس، ليتولى اعداد برنامج ثقافي مميز. في سنوات العمل تلك اختبرت قدرة المهنا على مكابدة عناءات مهنية وفكرية بصبر نادر، مثلما كانت الثقة تتجدد بيننا، في مواجهتنا "السلمية" لمصدر تلك العناءات الناتجة عن خبث الاسلاميين ومكائدهم ومؤامراتهم ضدنا، اكانوا ممن عملوا معنا في القناة، ام ممن وصلوا الى السلطة وصاروا أسياد البلاد الجدد.

الراحل المهنا (يمين) مع كاتب السطور
6
ايام المهنا التالية في بغداد، وتحديدا في "العالم"، خلقت منه صاحب طريقة دالة عليه في العمل الاعلامي والصحافي، هي ذاتها التي اخلص اليها في مقاله الناقد لـ"المؤتمر"، عمادها تدعيم الثقة وتبصير العاملين بهدوء وروية، بعيدا عن فكرة الوصاية وتسلطها. ومن هنا سعة دائرة محبيه ومريديه، فهو ظل منتميا الى الحرية عبر الكتابة والحياة، ولكن برهافة جعلت الاختلاف بملامح انسانية، لم يعرفها العمل الثقافي والصحافي والسياسي العراقي طوال عقود.
* نشرت ضمن ملحق خاص بالمهنا في جريدة "العالم" البغدادية اوائل العام 2014