علي عبد الأمير عجام*
حين كتب الشاعر حسين عبد اللطيف نصه "رهط الطير في حضرة العراق" مستغرقا في انصات عميق لاصوات: "الطائر الطنان والنخام والبلشون والكركي والبطريق والغداف والخطاف والغرنوق والشحرور والرفراف والصيوم والورشان والحسون والدوري والدراج والشقراق والوروار والقمري والقلاب والعصفور و ....." عشرات غيرها من طيور تجد في العراق ملاذا، نادى في آخر النص:
"فاسمع إليها يا عراق
تشدو بأغنية انتسابك
فاسمع إليها يا عراقْ" لم يدر بخلده ان تكون "النبرة الخافتة" المميزة لشعره، ميزة ستعود عليه بما يجعل صوت استغاثته خافتا حد ان لا احد من المسؤولين العراقيين سمعها، فوضعه الصحي الحرج، وعبر اصوات اصدقاء وزملاء له من المثقفين العراقيين، كان قد أصبح معروضا امام اثنتين من الرئاسات العراقية الثلاث، الا ان لا أحد تبنى علاج الشاعر المتفرد الذي ظل نائيا بنفسه عن مهرجانات الثقافة العراقية واضوائها، على الرغم من وجود تخصيصات مالية تقدر بعشرات الملايين من الدولار تحت بند"المنافع الاجتماعية"، لكل من رئيس الجمهورية ونائبيه، ولرئيس الوزراء ونائبيه، ولرئيس مجلس النواب ونائبيه، ورغم وجود "مستشارين ثقافيين" لدى الرؤوساء الثلاثة. وحيال تفاقم السكري في احدى قدمي الشاعر عبد اللطيف، كان على صاحب ديوان"نار القطرب" ان يقبل بخيار بتر قدمه كما اوصى بذلك الاطباء في بغداد، ولان الامر يبدو قاسيا عليه فقد اختار ان يجري العملية في مدينته البصرة الى جانب اهله ومحبيه. وإذ يبدو عبد اللطيف محدقا في سقف غرفة ببيته البسيط في البصرة، الا ان عينيه ما تلبثان الا ان تعاودا النظر الى قدمه المبتورة وهي ملفوفة بالضماد ليذهب الى مزيج من السخرية والالم، فهو في ديوانه"نار القطرب" كتب : : قدماي مفلطحتان وفمي أعجف ويداي ، يداي بحبال القنّب موثقتان آدم ذا وسط عراء منبوذْ غربانٌ وملائكة سودْ تتضاحك وتعابث أعضاءه" عبد اللطيف الذي لم يجد في بلاده العراق غير "بوابة للرجاء وللأمل، تحج جحافل الطير إليها لتحط عند بابه"أمضى جل حياته يشدو أغنية انتسابه للعراق"لم يكن طائفيا او فئويا او حزبيا يوما، ولم ينتم إلا إلى العراق، عاش زاهدا وأبيا ومعلما في أقصى أطراف أهوار البصرة، ينقله زورق كل يوم عبر مياهه، وأحيل على التقاعد مؤخرا براتب بخس دراهم معدودة يقبضها كل ثلاثة أشهر، عانى من مرض السكري ولم يكن قادرا على توفير علاج فعال".
الشاعر حسين عبد اللطيف : أي مرارات تورثها بلاد الرافدين؟
ويجمع كتاب البصرة وأدباؤها على ان "عبد اللطيف كان واحدا من زهاد شعراء جيل الستينات، فلم يتقن فن العلاقات لأنه لم يكن يمتلك مؤهلات سوى مؤهلات الإبداع، ولم تكن له هوية إلا هوية واحدة يشهرها حيثما حل، إنها هوية الإبداع التي يبدو أنها بدأت تفقد جدواها وفاعليتها في عراق اليوم".
ويلفت الناقد العراقي حاتم الصكر الى "تقصير النقد العراقي" في الاحاطة بشعرية صاحب ديوان " لم يعد يجدي النظر" ويقول ان "حسين عبداللطيف الذي لم يكن النقد الشعري العراقي المفتون بالتجييل قادراً على ضمّه داخل موجة من بحر الشعرية الصاخب أو رهْنِه بمزاياها، كان منفرداً يعزّ شعره على المماثلة والتشبيه، ذاهباً لصوره ولغته وإيقاعاته وحدها".
الشاعر وكتابه: الألم لم يعد مجديا؟
ان في نصوص حسين عبد اللطيف بحثا عن منفذ ما من مصير انساني يكاد لفرط ثقل ايامه ان يجعل الحياة سلسلة لا تنتهي من العثرات والخسارات ، ففي نص "قلبي من ذهب ابريز.." يمكن تتبع هذا البحث اليائس عن شعاع امل، البحث عن قلب اذا ما ضاع فانه سيكون موجودا في أمكنة لا تبدو في مدار العين ولكنها في جوهر الحياة ومحركاتها:"خذ نحو الحقل قطيع جواميسك.../يا فرحي/وابحث/سنة/لتجدْ/مع جوقة اطفال/او يعسوب/يلهو مرحا...قلبي خذ نحو البحر قطيع جواميسك../يافرحي/وابحث/سنة/لتجد/عند السمكة/او في بيت الحلزون، هنالك/ خاتم عرس من ذهب ابريز..قلبي خذ نحو الريح قطيع جواميسك../يا فرحي/ وابحث/سنة/لتجد/في طوق مطوقة/في الليل تنوح عليّ انا..قلبي واضرِبْ بعصاك.. فيافي الارض/لتجدْ/في حبة حنطة/او حبة رمل/مدفونا/قلبي".
فقرة من برنامج سبعة ايام الذي كنت اعده واقدمه من على شاشاة الحرة، وهي تعرض الوضع الصحي والانساني للشاعر العراقي حسين عبد اللطيف
واذا كان الشاعر غالبا ما يضع "حبة قمح" متجاورة أو متصلة مع" حبة رمل"، فانه انما يريد هذه المجاورة والاتصال ما بين البحث اليائس عن الامل"ستجد هناك قلبي" و الاثر الانساني المعرض للزوال في اشارة الى كون الرمل مهددا دائما بان تذروه الرياح، اي انه يضع نفسه في لهب المصير الانساني، في بحث لا يتوقف عن المعنى، في توق الى الخروج من ضيق الامكنة وقلة الحيلة: "في قبضة العزلة ابحث عن مصباح ابحث عن مفتاح" وضمن هذه المعادلة ما بين تطلع الى الامل المستند الى ذخيرة ميثولوجية(رافدينية على الاغلب) عمادها الخصب والغد : "ارسلي المطرا علنا نمنح الشجرا لونه الأخضرا وننال الثمار" ونظرة معاصرة الى الذات لجهة وجودها موثوقة بشتى اشكال القيود،وبما يجعلها اقرب الى اللاجدوى، اذ ترى في الهروب شكلا من اشكال الخلاص: "ألفّ حبلا وحبلْ ألقي على الغارب" انها حيرة الشاعر، مثلما هي حيرة انسان بقلب حي وضمير ينطوي على سنابل قمح من النوع الذي يغادر حقول سومر القديمة، لتزرع في طين ينبض بنداء انساني مشع، وكي تتجنب مصير الجفاف والاهمال : "لا تظلموا الحبّة في ذمة الكثبان" ولكن ثمة كثبانا تسفّ منذ الابد رملا كثيرا على حبوب القمح في بلاد الرافدين.
* المقالة نشرة في صحيفة "الغد" الاردنية العام 2008
** رحل الشاعر في 10 تموز 2014
|