باغتياله عصر السبت تكون الثقافة العراقية قد خسرت كامل شياع مفكرا وناقدا وصاحب مشروع تجديدي لم يجد فرصة للظهور حيال الصخب الذي ميز الحياة العراقية عموما ،وحياته شخصيا والتي توزعت ما بين الاقامة في المنفى والعودة الى البلاد بعد سقوط النظام العراقي السابق،والبدء بعمل مفتوح على كثير من الآمال في وزارة الثقافة. مسلحون مجهولون اعترضوا طريق المستشار في وزارة الثقافة كامل شياع على احد الطرق وسط بغداد وأطلقوا النار عليه ما أدى الى مقتله على الفور.المشهد بدا تكرارا لاغتيال وكيل وزارة الثقافة الناقد والمفكر قاسم عبد الامير عجام وهو ما تم عبر اعتراضه وهو في طريقه الى عمله في آيار (مايو) 2004 ،والاثنان هما من تيار فكري واحد :اليسار الديمقراطي"تيار يبدو مستهدفا من الاطراف الاصولية الدينية والقومية الحاكمة اليوم في العراق"كما يعلق نائب في البرلمان وناشط في العمل الثقافي رفض الكشف عن اسمه.
الراحل كامل شياع
ويقدم الناقد والمفكر كامل شياع ، مثالا لقلة من المثقفين العراقيين ممن كانوا مقيمين في المنفى وعادوا الى البلاد بعد الاحتلال ورفضوا المغادرة الى المنفى من جديد،وقرروا العمل في مؤسسات حكومية رغم تهديدات الموت الجدية.هذا المثال يأتي من تقييم مغاير عند شياع لفكرة العودة الى البلاد اذ يرى ان حلمه في العودة لم يكن مبنيا على توقعات رومانسية، بل انه جاء متوقعا خرابا كبيرا يدفعه الى المزيد من التحدي لاكتشاف اسبابه والاصرار على مواجهته "للمشاركة في صنع مستقبل العراق".ومن هنا كان قراره في البقاء في البلاد وعدم مغادرتها: "كنت اعرف مسبقا ان هذا البلد قد تعرض الى تخريب وتعرض الى حصار وتجويع وانهاك كامل وتدمير بناه التحتية.هذا مشهد خراب كنت اتوقعه. جئت الى العراق لكي اكتشفه واتعايش معه.ولكي أصبر ايضاعلى ازعاجاته ومشاكساته التي تواجهني.وهذه قضية نجحت الى حد غير قليل في تطويع نفسي مع واقع صعب وواقع في الحقيقة يخذل الكثير من التوقعات الرومانسية المبنية عليه". الاطار "الواقعي" الذي وسم عمله جعله وسطيا مقبولا بين ادارات عدة تولت وزارة الثقافة التي كانت من حصة "السنة"ضمن المحاصصة الطائفية التي بنيت وفقها مؤسسات الدولة العراقية،مثلما كان مقبولا ايضا من تيارات اصولية شيعية كانت تسيطر على المفاتيح الاساسية: وكيل وزارة الثقافة المسنود من المجلس الاعلى الاسلامي جابر الجابري ووكيلها الاخر فوزي الاتروشي (من القوميين المتشددين الاكراد) ومدير العلاقات الدولية فيها عقيل المندلاوي المسنود من التيار الصدري. قدرة المفكر كامل شياع على ان يكون "وسطيا" رغم عمله القريب من الحزب الشيوعي العراقي،نابعة من عمله فترة طويلة باحثا ومفكرا في بلجيكا حيث سنوات اقامته ونشره دراسات ومقالات بحثت في فكرة اقامة نهج وسطي كسبيل لانقاذ العراق من تياراته المتشددة يسارا ويمينا.كما انها قدرة يقول انها نابعة من" تجربة مهمة في العيش بمكان محدد وزمان محدد مع بشر محددين وفي سياق ملموس. وهذا ما كنت افتقده كعراقي عاش في الخارج لفترة طويلة وشعر ان اللحظة اتت لكي يستوي مع الناس ويبسط حياته و افكارة ويتعايش مع الواقع دون توقعات كثيرة ودون احلام ونظريات وتجريدات ومفاهيم". ويقدم كامل شياع رؤيته للتعاطي مع "العراق الجديد" ضمن صيغة بحث عن المعنى وخلاص روحي من تجربة الاغتراب الطويل في" التآلف مع بساطة الواقع والناس والبحث عن صور الحياة والامل في حياة الناس وسط طوفان الخراب والعنف، وهذا ما امدني بطاقة هائلة على التحمل وقدرة على الرصد والاكتشاف والتعايش واكتشاف لغة جديدة مع هذا الواقع الذي بدا لي غريبا للوهلة الاولى ". ولكنه في الوقت نفسه يتمنى ان لاتكون عودة الاخرين الذين عادوا الى اغترابهم بعد ان لم يستطيعوا التعايش مع يسميه هذا السياق الغريب والمعقد في العراق ان لاتكون عودتهم تلك ناجمة عن خيبة ويضيف : " انا اعتقد ان العيش في العراق بالنسبة لمن عاش في الخارج وعاد اليه حتى لفترة قصيرة، اعتقد ان هذه قد وفرت له فرصة لاعادة توازن الذات ولكسر الصور الوهمية التي غالبا ماتكون زاهية عن الوطن.ثم سرعان ما كشف لي وجهة الاخر وهو وجه عادي طبيعي فيه بشر لطيفون وفيه وفيه ارادات ومعالم جميلة بدأت اعيد اكتشاف المكان وبدأت ابني علاقات مع البشر ومشت الحياة لحد الان". كامل شياع يستدرك هنا ضمن حديث للاذاعة البريطانية عنى بصورة العراق بين مثقفيه العائدين من المنفى،يستدرك"مشت الحياة لحد الان"،لكن ابن الناصرية(جنوب العراق) المولود فيها العام 1951 وهو يبقي الباب مفتوحا امام الموت، كان يعول على وسطيته علها تنقذه من فخاخ الموت الكثير المزروعة في طريق الثقافة العراقية التي كان يريد لها الانشغال بمهمة "اقامة نظام سياسي مدني، والوقوف ضد الميول الشعبوية المرشحة للإتجاه بالعراق نحو الديكتاتورية من جديد".
* نشرت في "الغد" الاردنية 24-8-2008 |