مقالات  



سحق الهوية الوطنية العراقية ثقافيا وانسانيا

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       07/07/2014 06:00 AM


قبل ايام كنت اتابع بمزيج من الحنين والمتعة الراقية عرضا موسيقيا في احدى القنوات الاميركية المتخصصة بالموسيقى المعاصرة، وفكرته قائمة على اعادة تجمع مغني ثمانينات القرن الماضي البريطانيين في عرض مفتوح بالهواء الطلق حضره اكثر من 100 الف شخص، عاشوا المتعة والذكريات واستعادوا احداثا شخصية وعامة قاربت الثلاثين عاما، عبر اغنيات لم تعد مجرد الحان وكلمات، بل صورة روحية عن الوقت الذي انتجها. وقبل كل هذا فان المشهد الممتد ما بين الاف الحاضرين في موقع الحفل وصولا الى ملايين في بريطانيا والعالم من مشاهدي محطات التلفزة، لا يمكن له سوى ان يتصل بمفهوم العناية بالهوية الوطنية البريطانية، حتى وإن كانت حضرت "معولمة" ومفتوحة على الاخر، فالموسيقيون والجمهور والحدث والزمان، كانوا جميعا ضمن نسيج شكل جانبا من الهوية الوطنية البريطانية في بعدها الروحي والانساني، عبر اغنيات الثمانينات البريطانية التي طبعت ذائقة اجيال عدة من كل مجتمعات العالم وثقافاته لما حملته من عناصر تجديد واصالة في آن.
في مشهدنا العراقي ثقافيا وانسانيا هناك ما اسميها "موجة البكاء الجماعي على اطلال الاغنية السبعينية"، فالشعراء والكتاب والمثقفون والموسيقيون ومتذوقو النغم العراقي حتى من اجيال جديدة، لا حديث لهم في ما خص تأثير الموسيقى الرفيعة والغناء الجميل في العراق، الا الحديث عن اغنية تلك الفترة، غير ان اللافت هو غياب اي قدرة عند اوساطنا الثقافية، وبعضها حكومي ومؤثر ويدير اقساما مهمة في محطات تلفزيونية ووسائل اعلام تتمتع بقبول شعبي، على تنظيم حدث يتصل بفكرة الاحتفاء برموز تلك الاغنية في حدث ما، تنتعش فيها الهوية الوطنية العراقية، انطلاقا من ان اغنيات انتجتها سبعينيات القرن الماضي في العراق شكلت نسيج مشاعر لعراقيين كثر رغم اختلاف تكويناتهم الثقافية والاجتماعية.

علي عبد الأمير عجام

لا المؤسسة الثقافية الحكومية تفعل هذا، ولا المؤسسات الثقافية شبه المستقلة حتى وإن كانت مسؤولة عن صلب الحياة الموسيقية في البلاد، لا الشركات الاقتصادية الرابحة، وقبل كل هذه اللائحة من المؤسسات العاجزة او المتخلفة فكريا وبرامجيا، لا وسائل اعلام عراقية تتصدى لتنظيم حدث او اكثر يعني بجوانب روحية شكلت ملامح من الهوية الوطنية، رغم ان كثيرا من "المتباكين على اطلال رفعة اغنية السبعينيات" هم من العاملين المؤثرين في تلك الوسائل!
ليس هذا وحسب، بل ان تلك الوسائل الاعلامية والمؤسسات الثقافية تقدم كل ما هو مبتذل فكريا وروحيا لجهة التركيز على المشاعر الفجة المثيرة للقبليات الطائفية والعرقية، وهو ما يضيق الفسحة المشتركة التي تعنيها الهوية الوطنية ويمكن للفنون الرفيعة ان تتمثلها بقوة وتحرسها ايضا.
وقد تتذكر وسائل الاعلام تلك، وبخاصة المسموعة واكثر منها المرئية، ان لا بد من حضور ما للهوية الوطنية العراقية، حينها يكون الوقت متاحا بالكامل للفجاجة التي اسمها "الاغنية الوطنية" لاسيما ان جديدها في العراق اليوم يأتي عبر اصحاب الاصوات والالحان ذاتهم الذين انتجتهم ازمنة الرداءة الذوقية العراقية الممتدة من جيل "تلفزيون الشباب" لصاحبه عدي صدام حسين الى اجيال تلفزيونات زمان الطائفية شديد القبح والهمجية.
انه اتفاق شيطاني لكنه بقوى تأثير جبارة على سحق الهوية الوطنية العراقية، وتشييعها مثلما دأبت البلاد منذ حروب صدام الى حروب الطائفيين، على توديع كل معلم جميل فيها ويشهق بالانساني النبيل فكرة واسلوبا.

 
* نشرت في "المدى" 2011


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM