منذ أعوام وانا اتابع ما يمكن وصفها موجة البكاء على اطلال الاغنية العراقية في سبعينيات القرن الماضي، وتوقفت عند تدافع بين حشد من التعليقات والكتابات من اجل تثبيت حقيقة مفادها ان الاغنية العراقية بلغت اعلى مراحل اكتمالها الفني في عقد السبعينيات اياه. هذه حقيقة لا يمكن دحضها وان احتملت بعض الملاحظات لجهة سؤال: اي اغنية سادت في تلك الايام؟ ويبدو ان سبب هذه الموجة من البكاء على اطلال تلك الاغنية، هو افتقاد العراقيين اليوم عناصر بناء روحي من بينها الاغنية والانغام الرفيعة، فضلا عن موجة الحنين لاشياء شكلت هوية عراقية ما انفكت تتعرض الى الهدم، فجاء التشبث بالذكريات والبناء الروحي الذي يستدعي ايام الرصانة والهدوء والاستقرار، دافعا اساسيا لاستعادة تلك الاغنيات وملامحها الموسيقية والنغمية. غير ان ما فات اغلب من كتب في ذلك الاتجاه "موجة البكاء على اطلال اغنية السبيعينات"، وآخرهم د رباب هاشم حسين " الصباح – ملحق فنون" هو ان الاغنية الشعبية هي ابنة عصرها الاجتماعي بامتياز، بل هي بارومتر الوعي الفني والفكري لاي شعب من الشعوب في فترة انتاجها، لذا فان اي نظرة الى اغنية عقد سبعينات القرن الماضي دون ربطها بمحمولاتها الاجتماعية وظروف انتاجها الفكرية، سيجعلها نظرة لا تصل الى توصيف الصورة بوضوح ودقة.
صاحب "يا نجمة" المطرب حسين نعمة في رسمة جميلة للفنان علي المندلاوي
ان من جعل اغنية سبعينيات القرن الماضي بهذه الملامح المقاربة للاتقان الفني، هو وجود انفتاح فكري واجتماعي نسبي، وان انتهى هذا الانفتاح مع اخر سنتين من العقد اياه بتعميق سلطة الفكر الواحد، ووجود نوع من الاسترخاء المعيشي الذي انتج بالتالي استرخاء اجتماعيا وذوقيا، بل ان المهم في تلك الايام كان اعتبار الملمح الثقافي والانفتاح الفكري الشخصي، احد اهم الملامح المكونة للشخصية العراقية، هذا جعل الاغنية تنتعش مثلما انتعشت المسرحية العراقية، وترسخت ملامح انتاج سينمائي فضلا عن انتعاش صناعة الكتاب العراقي، تاليفا وطباعة الى جانب الريادة التقليدية في القراءة. هكذا توفر للاغنية العراقية حينها كتاب مرموقون، ملحنون مجتهدون جبلوا على الابتكار مع مراعاة الاصالة، مؤدون يتبارون فيما بينهم وصولا الى الجودة، الى جانب ذائقة سمعية على درجة لافتة من التهذيب الروحي والفكري. ومع ظروف مثالية كتلك، كان لابد من انتاج اغنية تقارب المثالية في توصيفها الفني لجهة اتقان النص واللحن والغناء. وبالعودة الى اساس قائم على اعتبار الاغنية الشعبية ابنة عصرها الاجتماعي بامتياز ومرآة صادقة له، كان من الطبيعي ان تنحدر الاغنية العراقية، بانحدار المؤشرات الثقافية وتراجع الذائقة الاجتماعية، مع سيادة قيم العنف والمنفعة وانهيار دور الطبقة المتوسطة التي بها وعبرها تنتعش الفنون والاداب والعلوم. وعلى ضوء هذه الملامح والمؤشرات امكن رصد تراجع الاغنية العراقية، حيث تقلصت مساحة العاطفة والوجدان فيها مع سيادة اغنيات الحرب وتمجيد العنف في عقد الثمانينيات، مثلما امكن رصد ملمحين في اغنيات العقد الاخير من القرن الماضي حتى اليوم: اغنيات النواح من جهة واغنيات الاسفاف من جهة اخرى، وهما كانتا استجابتين طبيعيتين لمؤثرين اجتماعيين هما الابرز في العراق خلال العقدين الماضيين: تراجع مساحة الفرح في الروح حيال تحديات اساسية كالتي عنتها الحروب والقمع والحصار واشكال العنف، فضلا عن صعود ثقافة الاسفاف بدعم من مؤسسات الحكم البائد وتحديدا تبني عدي صدام حسين عبر تلفزيون واذاعة الشباب نمطا محددا من الغناء بات متسيدا للساحة، وتمكن من خلق استجابة شعبية محددة تشبهه، بات معها من المستحيل لاي تجربة جادة حتى وان حاولت السير عكس التيار الوصول الى ذائقة المستمعين، ناهيك عن قدرتها في التاثير في ارواحهم المتعبة اصلا من ضنك تلك الايام ومعاناتها المريرة. ان الدعوات التي تغازل مجد الاغنية العراقية في سبعينيات القرن الماضي لجهة التساؤل: لماذا لا نقدم اغنية اليوم مشابهة لتلك الاعمال التي رممت الروح العراقية طويلا؟، هي اشبه بمحاولة الطلب من الناس القفز على وقائعهم الاجتماعية ومحدداتهم الثقافية والفكرية اليوم، والعودة بهم الى انفتاح ثقافة تلك الايام واليسر النسبي في الحصول على متطلبات العيش، وقبل ذلك الطلب من الطبقة المتوسطة بان تنهض من جديد وهي المثخنة بالجراح اليوم. ان تساؤلا من نوع " لماذا لا نعيد للاغنية العراقية مجدها التليد" هو تساؤل يتناسى الشروط الموضوعية للانتاج الفني والثقافي، وتحديدا نتاج الغناء الشعبي، اي شروط تاثير الواقع الاجتماعي والفكري، ثم ان التراجع في فنية الاغنية العراقية ليس حصرا بها، فثمة كارثة حقيقية ان تتحول اغنية بلد كمصر التي كانت قدمت اغنيات وروائع لاحصر لها الى نموذج يبعث على الغثيان، منه ذلك الذي يأتي من امي حقيقي اسمه شعبان عبد الرحيم، او ان تتحول بلاد اغنيات الرحابنة الى ورشة انتاج لا تهدأ لاغنيات ليس الصوت هو ما يغني فيها، بل الاجساد على الاغلب! وكذا الحال هي في الاغنية الغربية اليوم التي غادرت اكثر ملامحها الراقية لتتراجع بقوة (مع استثناءات ناردة). انها ازمة عامة (اغلب المجتمعات الانسانية المعاصرة) قبل كل شيء، ازمة تراجع القيم الروحية والثقافية حيال تصاعد القيم المادية وحضورها الطاغي، مثلما هي ازمة خاصة (عراقية) بتكثيف محنة وطننا الممتدة فصولا، وبالتالي فان لا مجال لاستعادة " مجد تليد" للاغنية العراقية الا مع استقراراجتماعي نسبي والوصول الى بناء اجتماعي منفتح ( تلعب فيه الطبقة المتوسطة المتعلمة دورا بارزا) ينظر باحترام الى الثقافة ومجمل النتاج الروحي وفي مقدمته الموسيقى، وبدون ذلك فان كل كتابات تمجيد الاغنية العراقية في سبعينيات القرن الماضي، هو اندراج في "مجد قديم" لا نفع فيه، بل هو مجرد بكاء آخرعلى الاطلال.
* نشرت في "الصباح" البغدادية 2009
|