بحسب مفهوم نقدي اجتماعي يمكن قراءة الاغنية والموسيقى من اجل الوصول الى تحديد ملامح فترة إجتماعية من خلال الأنغام التي انتجتها تلك الفترة. انطلاقا من هذا المفهوم ، يبدو النتاج الغنائي والموسيقي العراقي، وتحديدا منذ استيلاء نظام الرئيس السابق صدام حسين على المؤسسات الثقافية والفنية والحاقها بمهمة الدعاية لسياسات الحرب والتحريض الداخلي والخارجي، وقد تراجع من كونه نتاجا اجتماعيا يعبر عن المشاعر الانسانية الطبيعية الى نتاج فني ملحق بنهج الحكومة. في سنوات الحرب العراقية الايرانية (1980-1988) كان النتاج الغنائي مجندا لمهمة محددة، هي الدعاية للقتال والحرب، مع استثناءات نادرة، كانت تشكلها اعمال موسيقية وغنائية رصينة. بينما سيطر، عدي، النجل الاكبر للرئيس السابق على النتاج الغنائي عبر مؤسسة اذاعة وتلفزيون "الشباب" لتبث الكثير من النماذج الرديئة في الالحان والاصوات والمشاعر، مما شكل تيارا باتت الاغنية العراقية غير قادرة على الخروج منه، لا سيما ان مؤسسات الدولة غير قادرة نتيجة لضعف بنيتها من جهة، ولظروف الانهيارات الامنية المتتالية عن انتاج ثقافة مغايرة، تعتمد الانتصار للقيم الانسانية بعيدا عن اي دعاية وتحريض، وعن اي اسفاف ذوقي.
صوت الحطام أعلى من نحو ألف أغنية
حين ارتطم تمثال الرئيس العراقي صدام حسين على ارض " ساحة الفردوس" ببغداد ، كان صوت الحطام اعلى من نحو الف اغنية ولحن صاغها مطربون وملحنون عراقيون وعرب عملت على اختزال الوطن بصورة "القائد الفذ"، ومع الصخب المدوي لارتطام النحاس على الارض ، بدا العراقيون "عراة" لجهة ان لا اغنية يمكن ان تثير فيهم مشاعر "وطنية" من نوع ما ، فالاغنية "الوطنية" تداعت لتتضاءل في "اغنية حماسية" رسخها مداحو النظام السابق من مغنين وشعراء وملحنين. كان صعود اغنيات مديح الطغيان مترافقا مع تراجع الانتاج الغنائي والموسيقي الطبيعي الذي كانت الاسماع في العراق تعرفت الى مراحل عدة فيه ، وتراكمت خبرات موسيقية ولحنية ما لبثت ان التحقت بالمؤسسة الاعلامية والثقافية للسلطات الحاكمة واصبحت خاضعة لتوجهاتها وهو ما بدأ بشكل تدريجي منذ انقلاب العام 1968 وصولا الى سيطرة الرئيس السابق صدام حسين على السلطة ،وبدء مرحلة الغناء " التعبوي" مع الحرب على ايران 1980. سقوط اقنعة الديكتاتورية كشف عن حقيقة مريعة ، هي ان الوطن في الموسيقى العراقية لم يكن حاضرا ، ومن النادر ان يكون العراقيون ومنذ العام 1980 عرفوا اغنية تحضر فيها صورة البلاد واهلها ،واكتشفوا ان نشيد" بلادي" الذي كان رمزا موسيقيا لمصر حين انتقلت من الناصرية الى الانفتاح الساداتي وما اعقبه ، لا نظير عراقيا له ، وحين راح الموسيقيون يبحثون عن مثال اقرب الى الذي طبعه سيد درويش،لم يجدوا في الذكرة غير "موطني" النشيد الذي كانت اجيال كثيرة من العراقيين حفظته عبر درس النشيد المدرسي . اللافت في النشيد انه ليس عراقيا فقد كتبه الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان، ووضع لحنه اللبنانيان الاخوان فليفل ، فيما فات اولئك الموسيقيين ذلك اللحن الآسر الذي وضعه وغناه المطرب العراقي احمد الخليل ، وحمل روحا "وطنية" كان صاغها اعتمادا على نص الشاعر زاهد محمد وجعل النشيد الذي تتكرر لازمته "كن قويا موطني كن بهيا موطني ...ياموطني يا يا موطني" اقرب الى الاغنية العاطفية لجهة الوجدان الغامر في اللحن والكلمات. اكتشاف العراقيين غياب الاعمال الموسيقية والغنائية التي تكون مشتركا وطنيا بينهم ، كان مترافقا مع عمق ازمة الهوية الوطنية بين مكوناتهم وهو ما سيصبح لا حقا تهديدا جديا لبقاء بلادهم موحدة، وما عمق ذلك الغياب صعود قوى التشدد الاسلامي (شيعية وسنية) ومعها دخلت البلاد مرحلة بات فيها تحريم الموسيقى والغناء اقرب الى الامر الواقع . واذا كانت مفارقة ازمة البلاد "الثقيلة " وانتاجها الحانا " خفيفة" ، مفارقة عراقية ايضا وليست عربية وحسب ، الا ان المتابع لتاريخ الموسيقى العراقية المعاصرة سيجد استثناء لتك المعادلة ، ففي ثلاثة عقود من تاريخ العراق المعاصر 1958-1978 ، انتجت قرائح ملحنين واصوات مغنيات ومغنيين اعمالا كبيرة ومن النوع " الثقيل" في قيمته الفنية بينما كانت البلاد تشهد ظروفا من البناء الجدي ، وتغيرت الحال مع بدء مراحل الهدم والتدمير المنظمة ، فكلما ازدادت نعوش العراقيين ودخلت البلاد مراحل العزلة كلما " خفت" الألحان ، وتراجعت الذائقة . ومثلما سادت اغنيات الدعاية الحكومية في فترة سيطرة النظام العراقي السابق على مؤسسات البلاد الثقافية، عادت الظاهرة اليوم، لتتحول الاغنيات الوطنية، دعاية تمجد "انتصارات" القوات العراقية ضد الارهاب، كما في اغنية الثنائي حسام الرسام ومحمد عبد الجبار " الفرقة الذهبية":
وهناك اغنيات الثناء على "بطولات" القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء نوري المالكي، وفق سياق نغمي بائس في قيمته الفنية، ولكن تتاح له الكثير من منافذ البث عبر القناة التلفزيونية الرسمية والاخرى المؤيدة للحكومة، كما في تحول مغن من تيار الرداءة الذوقية مثل قاسم السلطان الذي سبق له ان اندرج في اغنيات الدعاية لرئيس النظام السابق ليتحول الى تمجيد الرئيس المالكي.
ان الأغنية العراقية منذ بداية تطورها الفني في النصف الاول من القرن الماضي وصولا الى مرحلة نضجها في السبعينيات، كانت عاملا حاسما في تشكيل وعي جمعي يوم كان التعبير عن المشاعر العميقة ومنها العاطفة التي تعنيها قصص ملايين العشاق، امرا طبيعيا له علاقة بسياق اجتماعي منفتح على الفنون بوصفها وسائل في الترفيه الراقي والتربية الذوقية، لكنها بحسب القيم السائدة اليوم، أغنية معنية بالاستجابات السريعة عند المتلقين و تستجيب لمشاعر هم وترضي أنماط وعيهم السهلة. انها ستظل مرآة عاكسة بصدق لتطور القيم الاجتماعية المدنية وتراجعه.
* نشر جزء من هذا البحث النقدي في صحيفة " المونيتور" الاليكترونية
|