ربما، وقد هيمنت ريحُ الغطرسة الامريكية، على منطقتنا خاصة، وعلى الجو السياسي العالمي عامة، بدا للكثيرين ان الحديث في السينما السياسية او الكتابة في البعد السياسي للسينما، لم يعد غير مكابرة فات وقتها، او انها – وقد تراجعت التوجهات الثورية التي طالما دعت لتوظيف السينما سياسياً او دعت، ولو كشعار، لاستثمار الاثر او الدور السياسي للسينما – مجرد تكرار لشعارات تجاوزها الزمن ! وربما، وقد شاعت عروض المغامرات والعنف وافلام الحركة والكوارث المتخيلة على ايقاع ( البطولات ) التي فبركتها الاصابع الامريكية على غرار شخصية ( روكي) وخوارقه، او ( رامبو) وعجائبه، ربما يسود الان وَهم اللاعودة للافلام السياسية او افلام الرؤية الثورية او حتى الاجتماعية على اقل تقدير.
الراحل قاسم عبد الامير عجام في معهد بحوث الموارد الطبيعية 1968
وفي كل تلك الحالات التي تنعى زمن السينما الامريكية وادبياتها نحن ازاء فهم قاصر للسينما السياسية، وفي احسن الاحوال ازاء التباس او خلط في تحديد مصادر و/ او مكامن الفعل السياسي للسينما. نعني ذلك الفهم الذي لا يرى السياسة في السينما، الا حينما تتناول هذه قضية سياسية ملتهبة، او سيرة شخصية لها فعلها في عالم السياسة، او حدثاً سياسياً، وان ابتعد او توسع ذلك الفهم للسينما السياسية فلن يتعدى النظر الى بعض وقائع التاريخ والحروب حين تعرضها السينما نوعاً من السينما السياسية ! ولعل هذا الجو نفسه حاضنة طبيعية لعودة الجدل القديم عن السينما كوسيلة للتسلية وعنها كوسيلة فعّاله للتوجيه بكل انواعه، بعد ان حسم الامر بهذا الشكل او ذاك بالاقرار بالدور الاجتماعي للسينما توجيهاً واتباعا . والحق ان ذلك الدفع الخفي، ولكن الملموس، باتجاه التراجع عن قضايا فكرية او جمالية حسمت لصالح التطور الاجتماعي التقدمي لامتنا .. لا يمكن فصله عن صعود الهيمنه الامبريالية ودعاواها في الحياة السياسية الدولية وما يتركه من تنشيط لعوامل الردة كافة . على ان قليلاً من الصبر والتأمل في الوقائع المرتبطة باي من تلك القضايا سيعيدنا الى الحقيقة الباقية وسط الضباب او التعتيم اللذين تثيرهما عوامل الارتداد .. بما فيها القضية التي نحن بصددها .. قضية السينما ودورها التوجيهي، وفعلها السياسي جزء من ذلك الدور . فالسينما هي الفن الوحيد الذي يتحدث عن الواقع، بالواقع نفسه، بصرف النظر عن مفردات لغتها الفنية . على ان تلك المفردات بدورها ليست الا التعبير الجمالي لانعكاس الواقع في ذهن الفنان بهدف تفسيره او تقديم موقف منه . اذ لم تعد السينما منذ اكتشاف المونتاج مجرد تتابع للصور الملتقطة ، بل صارت الصورة الواحدة تقول اكثر من شئ واحد تبعاً للمسار الذي تعرض ضمنه. وبذلك اصبح الشريط السينمي رؤية لموضوع محدد وموقفاً منه. فاذا اضفنا لذلك فعل الصياغة الدرامية ( السيناريو والحوار )، والمؤثرات الصوتية المختلفة، امكن القول ان السينما اكتسبت كل مقومات الخطاب المؤثر باشد ما يكون التأثير من قوة. واصبح لصانعي ذلك الخطاب ان يختاروا جنس الرسالة التي يستهدفون ايصالها عبره، والشكل الذي يرتأونه لها .. حتى لتمر الرسالة الواحدة من خلال الملهاة مرة ومن خلال المأساة مرة ! ومع تزايد خبرات الانتاج السينمي وتقنياته الحرفية، اصبح ممكناً تمرير ما يمكن تسميته بالرسائل السرية التي تخدم جهة الانتاج، خلال شكل مقبول او موضوع مرغوب، وحتى بشكل جذاب لتفعل فعلها بطيئاً او آجلاً معززاً بالتكرار والتنويع. فصارت السينما تمارس العرض والحجب معاً تبعاً لموقف الجهة المنتجة فتعرض وجهاً وتحجب الاخر من وجوه قضية معينة خدمة لاهداف ذلك الموقف ! ولم يعد غريباً ان نكتشف في ثنايا ملهاة ضاجة بالتسلية توجيهاً خفياً نحو فكرة استهدف المنتجون توصيلها. ناهيكم عن التوجيه المعلن في سير الاحداث وكلمات الحوار في افلام مخصصة لذلك. واذا كنا نقول ذلك اليوم ، بعد الاف من التجارب التي تعززت بالاف من الاشرطة السينمية بكل ما بثته من رسائل مختلفة المصدر والهدف، فأن المنتجين الاوائل قد ادركوا مبكراً طاقات هذه الصناعة على حمل الافكار، ولذا حملّوا افلامهم الرسائل الاكثر الحاحاً في وقتها وارسلوها خلال موضوعات تاريخية او قصص غرامية او حتى خلال افلام استعراضية. فتم توظيف الكثير من افلام السينما الامريكية لتوثيق الاستيطان الاوربي على الارض الامريكية، وتبرير ابادة سكانها الاصليين الذين عرفوا بالهنود الحمر، وتركيز القول بتدني العرق الاسود ووجوب خضوعه او اخضاعه للجنس الابيض . وركزت الثورة البلشفية على تحميل الافلام رسائلها السياسية التي استهدفت شدّ الجماهير الى فكرها وخططها . وعززت الافلام المحققة هنا وهناك الثقة بقدرة هذا الفن وفعاليته على خدمة اهله في السراء والضراء .. في الدعوة والتحذير .. في الترهيب والترغيب. على ذلك، اصبح طبيعياً ان تجتذب السينما الاستثمارات الضخمة، وان تسمح ضخامة الاستثمار بتطوير كافة حلقات صناعة السينما ابتداء من الدعاية لها ولانتاجها مروراً بخلق وتلميع نجومها ولتسويق اسمائهم بهدف تعميق اثرهم لخدمة الاهداف الابعد، وهي التمكين للرسالة التي يحملونها للمشاهد، وصولاً الى تطوير التقنيات في التطوير والتلوين والصوت والاضاءة ووسائل الاخراج والبناء الفيلمي كافة . وطبيعي ايضاً ان ينعكس ذلك التطوير في نوعية الانتاج نفسه ليكون اقدر على جذب جماهير اوسع وبالتالي تحقيق ارباح كبرى تدير الالة وتزيد فعاليتها فكانت استثمارات السينما ثنائية الهدف : فهي رابحة على الصعيد التجاري، ومحققة للهدف الفكري الاجتماعي المطلوب ولذا ليس صدفة ان تلقي الصهيونية بثقلها المالي والدعائي في هذا الميدان حتى اصبحت المهيمن الحقيقي على صناعة السينما في امريكا ومراكز عديدة في العالم، ومنذ وقت مبكر مما مكنها من التأثير في اسس توجيه تلك السينما واية سينما امتد اليها تأثيرها المالي فالدعائي . معنى ذلك، ان اي حديث عن التسلية او المتعة كهدف اساسي للسينما لم يعد سوى محض كلام ! وفي احسن الاحوال ليست التسلية السينمية ذاتها، اياً كان شكلها، سوى حاضنة او حاملة لفكرة يراد امرارها خلال ما يعتبر مسلياً، او حتى انها الثمن الذي يدفع للمشاهد كي يتلقى تلك الفكرة . واذا كان الامر كذلك، وهو كذلك، فأن حصر الصفة السياسية بتلك الافلام التي تتعاطى الشأن السياسي المباشر فقط، لا يعبر عن جوهر مفهوم السياسة من ناحية، ويسقط المتحقق الفعلي من نتائج او اثار الافلام اتي اعتبرت افلاما ليست سياسية من طاولة الفحص والتأمل . فليست السياسة في جوهرها هي الخطة العامة لدولة من الدول للتعامل مع الدول الاخرى فحسب، وليست هي خطتها في الدفاع عن اقليمها وشعبها فقط. وليست هي خطتها للبناء الاجتماعي فقط، انها كل ذلك تماماً. انها الامتزاج والتكامل بين فروع تلك الخطط المتخصصة المعبر عنها بالأيديولوجية العامة لادارة الشأن الداخلي والخارجي وصولاً الى التفصيلات التنفيذية لبلوغ الاهداف المرحلية والبعيدة وتفضيلات الاجراءات المساعدة لتنفيذ الخطط. فكل ذلك سياسة . وعلى ذلك تدخل التربية والتعليم والصحة والسياحة والاعلام والثقافة دائرة الشأن السياسي، كل من الباب المناسب. فاذا البناء الداخلي للانسان الفرد حيثما وجد محصلة ذلك التفاعل المعقد بين عوامل الخلق الطبيعي الذاتية وعوامل التوجيه والتنمية الاجتماعية والفكرية للمحيط الذي يعيش فيه . ولذا ليس صدفة ان يتقدم رجال السياسة، في السلطة او الساعين اليها، بمشروعاتهم التي نتفق عل تسميتها سياسية.. ان يتقدموا بها الى الناس وهي تتضمن كل تلك الخطط، وقد تعلن عن تفصيلات ادق مما يتعلق بحياة الناس. وبالمثل ، ليس من دون معنى ان يختلف الناس على تأييد هذا او ذاك من رجال او تيارات السياسة بناء على مضامين تلك المفردات ، فهم في ذلك يمارسون السياسة بأدق مفاهيمها. ولعل الصراعات حول انتخابات المجالس البلدية في العديد من الدول، وهي المجلس المتخصصة بخدمات الناس اليومية، هي الترجمة الفعلية للمفهوم الصحيح للسياسة منظوراً اليها من نتائج تطبيقها القائمة او المستقبلية . ان مجرد غياب ذلك المفهوم الحركي للسياسة عند النظر في تصنيف الافلام الى سياسية او لا سياسية، ينتج تلقائياً اسقاط المتحقق من اثار الافلام التي اعتبرت افلاماً غير سياسية فيزيد في ارتباك التصنيف او الفحص للوصول الى الاسباب والنتائج .
* الجزء الاول من مقدمة كتاب قاسم عبد الامير عجام" الضوء الكاذب في السينما الاميركية" الصادر اواخر العام 1998 ضمن سلسلة "الموسوعة الصغيرة". |